حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الآثار القاسية المترتبة على ” إنكار المجاز ” [5] .. بقلم أ.د/ محمود مخلوف

أستاذ البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر

فإن كان لديك إصرار بعد هذا كله على الوقوف عند كلام الإمام أبى حنيفة ، والإمام الشافعي , والإمام أحمد , وتابعيهم من الشيوخ الذين نفّروا من علم الكلام , وذمّ المشتغلين به , وإرشاد تلاميذهم ومحبيهم إلى هجر أهله , وعدم الأخذ عنهم ؛ إن كان لديك هذا فأقول لك :

     علم الكلام : اصطلاح مطلق عام , مرّ بأطوار عديدة , ولأئمته أهداف متغايرة , ولعلمائه مناهج متنوعة , ولدراساته أذواق وطعوم شتى .. وليس من الصواب الآن إطلاق حكم شامل يعم كل هذا العلم بتنوعاته السالفة … والدارس العاقل المنصف يصف حقيقة ما يدرس ، ويحدد مصادر هذه المسائل ، ومدى حاجة المسلمين إليها ، في تثبيت الاعتقاد ونفى الشبه ، ثم ينزل عليها الوصف الملائم لها؛ إذ لم يخل إمام من أئمة العلم الكبار من الدخول فيه بقدر , حتى الشافعي , وأحمد , وابن تيمية , وغيرهم  ..   فالإمام الشافعي جادل حفصا الفرد , (1)

       والإمام أحمد جادل المعتزلة , والشيعة ورد على الجهمية , وكلامه امتزج بحجج ومناهج عقلية , اضطر إليها أبو عبد الله لكي يثبّت العقيدة الصحيحة , وينفي عنها ما زينته عقول هؤلاء من الشُّبه .. أيظن عاقل أن أحمد ــ رضى الله عنه ــ كان يناظر فرسان العقل المعتزلة فيما توهموه صوابا في العقيدة والقرآن من غير اعتماد على أصول عقلية , ومنهج عقلي , وخطوات عقلية ؟

       أما ابن تيمية فإني أوقن أن لو تفرغ دارس صبور فطن منصف لاستخراج مصطلحات , وأساليب , ومناهج علم الكلام من كتبه لتوفر لديه مجلد كبير أو أكثر , مما يدخل غير قليل منه في علم الكلام المذموم !!

من هنا استقر رأيي على أن الحكم في علم الكلام وأهله  لا بد فيه من التفصيل والاستقراء أولاً ثم الحكم بعد التبين والتثبت .      

ناظر الشافعي في قضايا الكلام المعاصرة لهما , فقطعه الشافعي , أي غلبه , وحكم بكفره , وهنا يظهر ابن تيمية ليفسر حكم الشافعى بالكفر الأصغر , الذي لا يخرج عن الملة .. فهل يعتبر السلفية المعاصرون ؟ !      إذا كان ابن تيمية لم يرض بتفسير كلام الشافعي عن حفص الفرد بما يخرج عن الملة , فما بالكم تحكمون على أئمة العلم الأشاعرة الذين تقرأون مؤلفاتهم , وتنتفعون بها سراً وعلانية , ليلا ونهاراً ؟     

         فإذا تحقق وجود هذا الجدل العقلي  في حياة الإمام , مما اضطر إليه , فبماذا نسميه ؟ ومن اليقين أن أسلاف الإمام وشيوخه لم يضطروا إلى ما اضطر إليه , فلم يستعملوا أساليب عقلية مثل أساليبه .. فهذا كله يتعلمه طلاب العلم ضرورة , ويستخدمون مثل هذه الأساليب ضرورة ، وهذا ما توافق عليه السادة الحنابلة مع السادة الأشاعرة , بلا خلاف ..

       حيث قال ابن حمدان الحنبليَّ في كتابه ” صفة الفتوى ” : ” وعلم الكلام المذموم هو أصول الدين ، إذا تكلم فيه بالمعقول المحض أو المخالف للمنقول الصريح , فإن تكلم فيه بالنقل فقط والعقل الموافق له: فهو أصول الدين وطريقه أهل السنة وعلم السنة  وأهلها “

      ثم نقل ابن حمدان الحكم نفسه عن الإمام أبي حامد الغزالي قوله : ” الخوض في الكلام حرام لكثرة الآفة فيه , إلا لرجل وقعت له شبهة ليست تزول بكلام قريب ولا بحديث نقلي , فيجوز أن يكون القول المرتب الكلامي رافعاً شبهته …

أو الرجل كامل العقل , راسخ القدم في الدين , ثابت الإيمان كأنوار اليقين ، يريد أن يحصّل هذا العلم ليداوي به مريضاً إذا وقعت له شبهة , ويفحم به مبتدعاً إذا نبغ , وليحرس به معتقده إذا قصد مبتدع أن يغويه , فتعلُّم ذلك لهذا الغرض كفاية , وتعلُم قدر ما يزيل الشك والشبهة في حق المشكَّك فرض عين ، إذا لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر سواه .. فمن وقعت له شبهة جاز جوابه إذا أمن عليه وعلى غيره من التشويش “

====================

(1) كان متكلما معتزليا , وممن يقول بخلق القرآن , وله كلام في الصفات الإلهية , والقدر , وذُكر أنه من المجبرة , وكان يكنى بأبي يحيى , وأصله من مصر , قدم البصرة , فناظر أبا الهذيل الهلاف المعتزلي فقطعه أبو الهذيل ، قال عنه النسائي ” صاحب علم الكلام , لكنه لا يكتب حديثه ” وقد جزم ابن تيمية بأن الشافعي حين كفّره ـ كما في رواية البيهقي وغيره لم يقصد إخراجه من الملة , إنما قصد بيان أن قوله قول كفر , واحتج ابن تيمية لهذا بأن الشافعي لم يسعَ في قتله , وإقامة حد الردة عليه عند ولي الأمر ..  فحفص الفرد كان معتزليا.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu