حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الفروق الدلالية عند ابن القيم [2] الحمد والشكر بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم بكلية الدراسات العليا ووكيل كلية اللغة العربية بالقاهرة السابق

من الألفاظ التي اختلف العلماء في تحديد معناها والوقوف على دلالتها لفظاً الحمد والشكر, فبعضهم يرى أنهما بمعنى، في حين يرى فريق آخر أن بينهما تبايناً في المعنى، ويرى فريق ثالث أن اللفظين بينهما عموم وخصوص، ويرى فريق رابع أن أحدهما أعم من الآخر مطلقاً، وقبل أن أستعرض آراء العلماء في ذلك لابد وأن أقدم رأي ابن القيم لأعرف موقفه من تلك الآراء، يقول ابن القيمّ: “وتكلم الناس في الفرق بين الحمد والشكر, أيهما أعلى وأفضل؟ وفي الحديث: “الحمد رأس الشكر, فمن لم يحمد الله لم يشكره”.

والفرق بينهما أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه, وأخص من جهة متعلقاته, والحمد أعم من جهة المتعلقات وأخص من جهة الأسباب. ومعنى هذا أن الشكر يكون بالقلب خضوعاً واستكانة وباللسان ثناءً واعترافاً وبالجوارح طاعةً وانقياداً, ومتعلقه النعم دون الأوصاف الذاتية, فلا يُقال شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعمله, وهو المحمود عليها, كما هو محمود على إحسانه وعدله, والشكر يكون على الإحسان والنعم, فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس, فإن الشكر يقع بالجوارح, والحمد يقع بالقلب واللسان[1].

فابن القيم يرى أن لكل منهما عموماً من وجه وخصوصاً من وجه آخر، فالشكر أعم من جهة الأسباب والأنواع، لأنه يكون بالقلب واللسان والجوارح، وأخص من جهة المتعلقات لأنه لا يكون إلا عن إحسان، أما الحمد فهو أخص من جهة الأسباب لأنه يكون بالقلب واللسان فقط وأعم من جهة المتعلقات لأنه يكون على النعم وعلى الأوصاف الذاتية.

لقد سبق الزمخشري إلى القول بالعموم والخصوص بين اللفظين من وجهين:

1- أن الحمد يكون عن نعمة وعن غير نعمة، والشكر لا يكون إلا عن نعمة.

2- الحمد باللسان وحده, فهو إحدى شعب الشكر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: “الحمد رأس الشكر”[2]، فكل منهما أعم من وجه وأخص من وجه آخر.

ويرى أبو هلال العسكري أن ثمة فروقاً بين اللفظين قي المعنى نستخلصها فيما يلي:

1- أن الحمد نقيض الذم, والشكر نقيض الكفر.

2- أن الحمد يكون على النعمة وعلى غير النعمة, والشكر لا يصلح إلا على النعمة.

3- يجوز أن يحمد الإنسان نفسه في أمور جميلة يأتيها, ولا يجوز أن يشكرها؛ لأن الشكر يجري مجرى قضاء الدين, ولا يجوز أن يكون للإنسان على نفسه دين[3].

ويضيف الرازي ملمحاً آخر يؤكد فيه أن الحمد أعم, فيقول “إن الحمد يَعُمّ ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلي غيرك، وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك”[4].

كما يضيف الكفوي بعض الملامح التي تفرق بين اللفظين “فالشكر اللغويّ كالحمد اللُّغَويّ في أنهما وصف باللسان بإزاء النعمة, إلا أن الحمد يكون باللسان بإزاء الشجاعة, بخلاف الشكر, والنعمة مقيدة في الشكر بوصلها إلي الشاكر بخلافها في الحمد, ويختص الشكر بالله تعالى بخلاف الحمد”[5].

ولا ادري لماذا خص الشكر بالله, رغم أنه قد ورد لغيره سبحانه, فقد جاء في الحديث القدسي “لم يشكرني من لم يشكر من أجريت النعمة على يديه” ، “ولا يشكر الله من لا يشكر الناس” وفي القرآن الكريم قوله تعالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [6].

والحمد أيضاَ يكون على المحبوب والمكروه بخلاف الشكر الذي لا يكون إلا على المحبوب[7].

ويرى أبو جعفر النحاس “أن الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر والجزاء, والشكر مخصوص بما يكون مكافأة لمن أولاك معروفاً”[8].

ويرى صاحب المفردات أن المدح أعم من الحمد, والحمد أعم من الشكر, فكل شكر حمد وليس كل حمد شكراً, وكل حمد مدح وليس العكس[9].

وأكد ابن منظور التقارب المعنويّ بين اللفظين، إلا أنه جعل الحمد أعمهما، فقال: “والحمد والشكر متقاربان, والحمد أعمهما, لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه، ولا تشكره على صفاته”[10]، وقال في موضع آخر “والشكر مثل الحمد, إلا أن الحمد أعم منه”[11].

ويرى بعض العلماء أنهما بمعنى, ونسب هذا الرأي للحياني والأخفش والمبرد من اللغويين وأبي جعفر الطبري من المفسرين وغيره[12].

يقول القرطبي: “ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء, وليس بمرض, وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب الحقائق له عن جعفر الصادق وابن عطاء, قال ابن عطاء: معناه الشكر لله إذا كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه”[13].

ويفهم من كلام ابن عطاء أنه يوحِّد بينهما في المعنى في هذا السياق دون غيره, إذ كان يفسر “الحمد لله” وهو سبحانه مستحق للحمد والثناء والشكر, فلعلّه أراد ذلك.

أما في غير هذا السياق, فعبارة العلماء باتفاق المعنى فيها شيء من التجوز, وكأنهم يريدون المعنى العام وليس الترادف.

ويرى بعض العلماء أن الشكر أعم من الحمد, لأنه يكون باللسان والجوارح والقلب, والحمد إنما يكون باللسان خاصة, فهو إحدى شعب الشكر[14]، ولذلك يعرف بعضهم الشكر بقوله: “والشكر: مقابلة النعمة بالقول والفعل والنيّة, فيثني على المنعم بلسانه, ويذيب نفسه في طاعته ويعتقد أنه موليها”[15].

تعقـيب:

هكذا رأيت أن كلمة العلماء لم تتفق على دلالة الكلمتين، وأيهما أعم من الأخرى – إن كان هناك عموم وخصوص – كما لم يتفقوا على عدد الملامح الدلالية الفارقة بين المعنيين – إن كان ثمة تباين بينهما – ويرجع ذلك إلى اختلاف منحاهم في تعريف كلا اللفظين أولاً, وعدم اتفاقهم على استنباط المعنى الاشتقاقي من أيّ فرع من فروع المادة اللغوية ثانياً.

فالحمد عرفة بعضهم بذكر ضده, فقال: “الحمد نقيض الذم[16], وعرفه فريق آخر بأنه الثناء الكامل على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان, والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد[17], أو أنه الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها[18], أو هو الإخبار عن محاسن الغير, مع حبه وإجلاله وتعظيمه[19], أو الذكر بالجميل على جهة التعظيم[20], أو الثناء على الممدوح بالفضيلة[21], أو هو الثناء مع الرضى بشهادة موارد استعماله[22].

هذه بعض التعريفات التي عرفها العلماء للحمد, أما الشكر, فقالوا عنه: هو تصوير النعمة وإظهارها[23], أو الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه[24], أو عرفان الإحسان ونشره وحمد موليه[25], أو مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية[26], أو هو ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان[27].

أما الاشتقاق وأثره في تحديد المعنى, فقد ذهب بعضهم إلى أثر الاشتقاق الأكبر في ذلك فقال عن الشكر: “هو تصور النعمة وإظهارها, قيل: هو مقلوب عن الكشر أي الكشف”[28]، وبعضهم يرى أن أصله من عين شكري أي ممتلئة, فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المُنعم عليه[29]. وقيل مأخوذ من قولهم فَرَسٌ شكور, إذا كفاه لِسِمَنِهِ العلفُ القليل, والشكر على هذا هو الرِّضا باليسير[30]، أو أصله إظهار الحال الجميلة, من قولهم دابّة شكور, إذا ظهر فيها السِّمَن مع قِلّة العَلَف[31]، أو أصله من الشكير وهو نبات صغير يظهر وسط النباتات الكبيرة والقضبان الغضة, والشكر على هذا إظهار حق النعمة لقضاء حق المنعم[32].

مما سبق يتضح أن كل كلمة من الكلمتين تنتمي إلى مادة لغوية لها معناها العام الذي تدور مفرداتها في فلكه فلا تتعداه, فالحمد من “ح م د” والشكر من “ش ك ر” وبديهي أن يكون لكل منها معنى خاص بها يختلف عن معنى الأخرى, وإن كانتا ينتميان إلى حقل دلالي واحد يجمعهما مع غيرهما معنى عام مشترك، وهذا ما ستوضحه الأمثلة التي تلي بعد ذلك.

كما يمكن الإشارة إلى أن كل لفظ من اللفظين يتميز من الآخر ببعض الملامح الدلالية الفارقة التي رصدها العلماء, ومنهم ابن القيِّم الذي جعل مناط التمييز عمومية الشكر من ناحية الأسباب والأنواع – فأسبابه متعددة – وخصوصيته من جهة المتعلقات, فلا يتعلق إلا بالنعم فقط، بخلاف الحمد الذي يتعلق بالنعم وبغيرها, ويكون باللسان فقط.

بقي القول بأن مادة الحمد بتصاريفها المختلفة وردت في القرآن الكريم ثمانياً وستين مرة في حين وردت مادة الشكر بتصاريفها خمساً وسبعين مرة[33].

===============================

[1] مدارج السالكين 2/246 , 237

[2] الكشاف 1/15 , 16

[3] الفروق الدلالية ص 45 , 46

[4] تفسير الرازي 1/219

[5] الكليات ص 535

[6] لقمان آية 14

[7] الفروق اللغوية وأثرها في تفسير القرآن الكريم، محمد بن عبد الرحمن بن صالح الشايع مكتبة العبيكان ط 1 1414هـ 1993م, واختيار الكلمة في التعبير القرآني د. رشاد محمد سالم مجلة الكلية اللغة العربية العدد العشرون الجزء الثاني 1422هـ 2000م ص 1048

[8] معاني القرآن لأبي جعفر النحاس تحقيق د. يحيى مراد, دار الحديث, القاهرة 1/22

[9] المفردات ص 138

[10] اللسان “حمد”

[11] السابق “شكر”

[12] اللسان “حمد” والجامع لأحكام القرآن 1/149

[13] الجامع لإحكام القرآن 1/149

[14] الكشاف 1/16 والجامع لأحكام القرآن 1/149

[15] اللسان “شكر”

[16] العين 3/188 ومقاييس اللغة لابن فارس 2/100 واللسان “حمد” والكشاف 1/16

[17] الجامع لأحكام القرآن 1/148

[18] الكشاف 1/15

[19] بدائع الفوائد 2/93

[20] الفروق اللغوية ص 45

[21] المفردات ص 168

[22] الكليات الكفوي ص 366

[23] المفردات ص 368

[24] المقاييس 3/207

[25] العين 5/292 واللسان “حمد”

[26] اللسان “حمد”

[27] الجامع الحاكم للقرآن 1/150 وانظر الكليات 535

[28] المفردات ص 268

[29] السابق والصفحة ذاتها

[30] المقاييس 3/208

[31] الفروق اللُّغوية ص 46

[32] السابق والصفحة ذاتها

[33] معجم ألفاظ القرآن الكريم, مجمع اللغة العربية 1/297, و643 طبعة الهيئة العامة للكتاب, ومعجم الألفاظ والأعلام القرآنية, محمد إسماعيل إبراهيم 1/145ط 1, دار الفكر للطباعة والنشر, بيروت 1981م

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu