الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..
أوَّلًا- مفهوم البحث العلمي:
(البحث العلمي) مركب وصفي بسيط أي مكون من كلمتين إحداهما وصف للأخرى، وحتى نفهم مدلول هذا المركب، أرى ضرورة تفكيك عناصره، والبحث عن معنيهما في اللغة، ثم تركيبه مرة أخرى لبيان المعنى الاصطلاحي:
إن التأصيل المعجمي لكلمة (بحث) يدلنا على انتمائها إلى مادة (ب.ح.ث) التي يوضح معناها العامَّ ابنُ فارس، فيقول: ” الباء والحاء والثاء أصل واحد، يدل على إثارة الشيء. قال الخليل: البحث طلبك شيئًا في التراب، والبحث أن تسأل عن شيء وتَستَخْبِر..” ([1])
ومنه قول الله عز وجل: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) ([2]) أي يحفر بمنقاره ورجله في الأرض. “وفي ضوء هذه الآية القرآنية السابقة التي حوت مادة (ب. ح. ث) يستبين لنا أن مدلول المادة نبت حسيًّا فطريًا، ثم انتقل بطريق التجوز معبرًا عن المحسوس والمعقول من طلبٍ لمجدٍ أو علمٍ أو حقيقةٍ أو كشفِ مستورٍ.” ([3])
وبتطبيق ما رآه ابن جني في نظرية (إمساس الألفاظ أشباه المعاني) من حيث تشبيه أصوات الكلمة بالأحداث المعبرة عنها بها، فقد ” رأى ابن جني في حروف تلك المادة وترتيبها وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها ما يؤكد الأصالة في الدلالة الحسية.” ([4]) وذلك في قوله:” فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض، والحاء لصَحَلها([5]) تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت في الأرض، والثاء للنفث، والبث للتراب.” ([6])
وكلمة (علم) تنتمي إلى مادة (ع.ل.م) التي تدل ” على أثر بالشيء يتميز به عن غيره.. والعِلم: نقيض الجهل “([7])
إذا ما المراد بمصطلح (البحث العلمي)؟
في الحقيقة أورد العلماء تعريفاتٍ كثيرةً للبحث العلمي، تختلف فيما بينها باختلاف أصحابها، وثقافاتهم، ومنطلقاتهم التخصصية في الأعم الأغلب، لكنَّ هنا تعريفًا أراه عامًّا، غيرَ محددٍ بتخصصٍ معينٍ، ومن ثم يصدق عليها جميعًا، وهو أنه: ” دراسةٌ مبنيةٌ على تقصٍ وتتبعٍ، لموضوعٍ معينٍ، وفق منهجٍ خاصٍّ؛ لتحقيق هدفٍ معينٍ.” ([8])
فالدراسة تقوم على عناصر معينة، من أهمها: تحديد فكرة البحث في موضوع معين، وعملية الجمع والصياغة، ومنهج يسير عليه الباحث، وهدف من أهداف البحث العلمي التي ذكرها العلماء يسعى إلى تحقيقه، والتي لخصها بعضهم في قوله لا تخرج غايات البحث عن واحد من هذه الأمور: ” اختراع معدوم، أو جمع متفرق، أو تكميل ناقص، أو تفصيل مجمل، أو تهذيب مطول، أو ترتيب مختلط، أو تعيين مبهم، أو تبيين خطأ.” ([9]) وهذه الأهداف سوف نقف أمامها لاحقا إن شاء الله، ممثلين لها ببعض المؤلَّفات.
وأعتقد أن وصف البحث (بالعلمي) ينبؤنا عن عدم العشوائية التي قد توجد في غيرها من عمليات البحث، كالبحث عن فاكهة معينة في السوق، مما لا تقتضي أطرًا علمية محددة، مثل المنهج والمنهجية..إلخ.
ثانيا- أهمية البحث العلمي:
للبحث العلمي أهمية تتمثل في أمور منها، أنه:
- غريزة فطرية:
خلق الله الإنسان باحثًا بطبعه، بدءًا من بحثه عن الطعام والشراب، وما يلزمه من أغراض، ساعدته على تطوير ما لديه من إمكانات، فاكتشف النار، حينما أنشأ الله له شجرتها، فساعدته في إنضاج الطعام وغيرها من الأمور الحياتية، وأخذ في اكتشاف الوسائل التي تعينه على الحياة، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن من وسائل متطورة، وما زال الإنسان يبحث عن المزيد.
- مظهر حضاري:
من أين يمكن لنا أن نحكم على الشعوب بالتقدم والريادة؟ وكيف نصف أمة بأن لديها حضارة؟ إنما ينقاس ذلك بمدى تقدم بحثها العلمي، ذلك حمله على عاتقهم علماؤنا العرب فصار منهم علماء مبرزين، برعوا في العلوم والفنون، فصار فيهم تلك الأسماء الشهيرة على المستوى العالمي، كابن سينا، والخوارزمي، وابن الهيثم وغيرهم، ومن المقرر أنه لا تبدأ نهضة إلا عند العناية بالبحث العلمي، ورصد الميزانيات الكبيرة لهذا الغرض.
- فريضة دينية:
العلم لدينا نحن المسلمين فريضة دينية، تجلت مظاهرها في أول آية نزلت على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم آمرة إياه بالقراءة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ([10]) وكذلك قسم الله عز وجل بالقلم في قوله (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) ([11]) وكذلك أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته بضرورة التعلم في أحاديث متعددة، وحثه بعض الصحابة على تعلم لغة أقوام آخرين.
- يكشف عن منجزات الأمم:
لا خير في أمة لا تقدر منجزها العلمي، وتراثها الحضاري، تبحث فيه وحوله، وتظهر للدنيا كلها كيف كان يفكر علماؤها القدامى، والحال في تراثنا العربي لا يبتعد عن هذا، فمن الضرورات العلمية عندنا العمل على كشف ثمرة جهود علمائنا القدامى، ولذلك عمل كثير من الباحثين حينما هبت علينا رياح التقدم العلمي من أوروبا على تأصيل كثير من النظريات العلمية من خلال تراثنا العربي الثري، بكثير من النظريات والإشارات التي يمكننا من خلالها تسجيل سبقنا إلى كثير من الحقائق العلمية.
[1])) مقاييس اللغة، مادة ( ب. ح. ث) لابن فارس.
[2])) المائدة من الآية (31).
[3])) مناهج البحث في علوم اللغة (35) د. محمد أحمد خاطر.
[4])) البحث اللغوي أصوله ومناهجه (9، 10) د. عبد المنعم عبد الله.
[5])) صَحِلَ فلان صَحَلًا: كان في صوته بُحَّة.
[6])) الخصائص (2/163) ابن جني.
[7])) مقاييس اللغة، مادة ( ع. ل. م).
[8])) البحث العلمي- حقيقته، ومصادره، ومادته، ومناهجه، وكتابته، وطباعته، ومناقشته (1/23) د. عبد العزيز الربيعة، السعودية، ط ثالثة، 1424ه-2004م.
[9])) قواعد التحديث (37) محمد جمال الدين القاسمي.
[10])) العلق (1)
[11])) القلم (1)