حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

تذوق “عبد القاهر” الفني في كتابه “دلائل الإعجاز” [الحلقة الثامنة] بقلم د. محمد عرفة

الأستاذ المساعد بجامعة الجوف بالمملكة العربية السعودية

ومن أهم ما تميز به منهج عبد القاهر الجرجاني في مجال التذوق الفني وقوفه عند معنى المعنى، أو المعاني الثواني،([1]) إذ كان الشيخ أول من لفت إلى تلك الدلالة التالية للمعنى المباشر للألفاظ. فعبد القاهر حينما يقول:”إن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، وإلى ما يُدَّلُ عليه بالألفاظ، دون الألفاظ أنفسها”.([2]) نشعر أن هناك صنفين من المعاني يتحدث عنهما:

– معني يُتَحَصَّل من (الألفاظ أنفسها).

– معني يُتَحَصَّل ( مما يُدَّلُ عليه بالألفاظ).

وأحسب أن (دلالة المعنى) هي ما يعنيها عبد القاهر من وصفه لاستعارة “كثير” في أبياته:”ولما قضينا من من كل حاجة([3])…”، بأنها “وقعت موقعها، وأصابت غرضها”، بأن صرحت بما أومأ إليه الشاعر في الأخذ بأطراف الأحاديث، وأخبرت بسرعة السير ووطاءة الظهر، مما يؤكد ما سبق الشاعر به من نشاط الركبان، الذي معه يزداد الحديث طيبا”، وهذا غاية ما أراد الشاعر إبرازه من الاستعارة.

        فالمعنى الظاهر والمباشر لألفاظ الاستعارة (وسالت بأعناق المطي الأباطح) هو سرعة سير المطي وامتلاء الوادي بها، وانتظامها في سيرها. ودلالة المعنى، أو معنى المعنى، هو ما يستدل عليه من المعنى السابق، فسرعة السير وانتظامه، تعني وطاءة الظهر، وراحة الركبان، وما هم فيه من نشوة وأريحيةٍ، أتاحت لهم أن يأخذوا بأطراف الأحاديث بينهم فتزاد النشوة وتعم السعادة، ويزداد الركبان نشاطا، ويزداد الحديث طيبًا وسرورًا.

        إن تحليل عبد القاهر لهذا الشاهد (ولما قضينا من منى كل حاجة…) يأخذنا إلى غاية كنا نجعلها وسيلة، يأخذنا إلى منهج عبد القاهر وطريقة تذوقه لشواهده، وقد كنا نصل من التحليل والتذوق إلى المعايير والأصول لنطبقها على ما بأيدينا من نصوص، لكن الأصل هو تتبع منهج عبد القاهر في تذوقه وتحليله كي نطبقه على غير ما حلل من نصوص.

       ولعل هذا ما كان يعنيه عبد القاهر حين أكثر من عرض الشواهد، وبخاصة الشعرية، فحلل ما حلل وسكت عما سكت.

      لقد نمَّ تحليل عبد القاهر لأبيات”كثير” عن طريقته في التذوق، ومنهجه في التحليل، ثم توظيف هذا التحليل الفني التطبيقي في إقرار الإطار النظري الذي استشهد عليه عبد القاهر، والقضية التي دار الحديث في إطارها.

 الإطار النظري: أن دراسة اللفظة في الأساليب العالية من القول:

1- لابد أن يكون داخل نظم أو نسيج أو تأليف مع غيرها.

2- أن تجد حسن وفضل وروعة هذه الكلمة مع جاراتها يعلوها وهي منفردة، ثم لا يعلو عليه كلمة أخرى إذا وضعت في نفس سياقها. ولذلك (فقياس الشعر الموصوف بحسن اللفظ) لا تكون لفظته على غرار الجوهرة، تزدان وتجمل مع صاحباتها، لكنها بمفردها جميلة في ذاتها (كلا، ليس هذا بقياس الشعر الموصوف بحسن اللفظ).

      ثم ارتكز هذا الإطار النظري على ركائز تكون أساسًا لما يلي ذلك من تطبيق وتحليل، فجعل الركائز التي تقوم عليها بلاغة هذه الأبيات :

1- استعارة وقعت موقعها وأصابت غرضها.

2- حسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن.

3- سلامة الكلام من الحشو غير المفيد الذي هو :

أ- كالزيادة في التحديد.

ب- وكالشيء يداخل المعاني المقصودة مداخلة الطفيلي الذي يستثقل مكانه، والأجنبي الذي يكره حضوره.

4- السلامة من التقصير الذي يفتقر معه السامع إلى تطلب زيادةٍ بقيت في نفس المتكلم:

أ- كألا يدل عليها بلفظها الخاص بها.

ب- أو يعتمد دليل حال غير مفصح.

ج- أو أن ينيب مذكورًا ليس لتلك الزيادة بمستصلح.

================                         

([1]) (معنى المعنى) هو مصطلح عبد القاهر نفسه وهو يتحدث عن الحقيقة والمجاز فيقول: “وإذ قد عرفت هذه الجملة، ففيها عبارة مختصرة وهي أن تقول: (المعنى)،(ومعنى المعنى)، تعني بالمعنى: المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة = و(بمعنى المعنى)، أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر”(دلائل الإعجاز، ص263). وأشار إلى أن هناك معانٍ أُوَل مفهومة من أنفس الألفاظ، و”معانٍ ثوانٍ” وهي التي يُؤمأ إليها بتلك المعاني.(دلائل الإعجاز، ص264).

([2]) دلائل الإعجاز، ص259.

([3]) سنستعير تحليل عبد القاهر لهذا الأبيات من كتابه أسرار البلاغة، ص21 وما بعدها، لنقف على منهجه في التذوق الفني.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu