من المعروف تميز العرب في مجال اللغة والأدب، وسبقهم الأمم في البلاغة والفصاحة، لذا فقد ارتضي ربُّنا – تباركت أسماؤه- أن تكون لغتُهم وعاءً لكتابه الكريم، وأن يتحداهم به تحديًّا يعجزون فيه أن يأتوا بمثل سورة واحدة منه، ولا يخفى ما ينطوي عليه هذا التحدي من إثباتٍ لبراعتهم في اللغة وضروب الأدب، وإلا فكيف يكونون أهلًا لهذا التحدي؟ ولا يتأتى تميز العرب في لغتهم من كثرة مفرداتها، فكم من لغةٍ كُثرت مفرداتها، ولا من تعدُّد معانيها فالمعاني ليست حكرًا على أمةٍ دون أخرى، وقد يبدو من المعاني لأمةٍ ما لا يظهر لأخرى.
وإنما أتى هذا التميزُ للعرب من معرفة مواضع الكلام، وانتقاء الألفاظ في الدلالة على المعاني، انتقاءً دقيقًا ومحددًّا. فللعرب في هذا الانتقاء باعٌ طويلٌ يظهر أحد جوانبه في فكرة الفروق الدلالية، من حيث التفريق بين الألفاظ متقاربة المعاني في الاستعمال، حيث تُستخدم لفظةٌ في موضع لا يصح أن تُستخدم فيه لفظةٌ أخرى قريبةٌ منها في المعنى إلا على سبيل التجوُّز، أو الضرورة في اختيار القوافي على سبيل المثال.
وقد تجلى تراث الفروق واضحًا من خلال كُتُبٍ حملت هذا الاسم، لكن يبقى مخزونٌ آخرُ للفروق يتمثل في المعاجم اللغوية، وكتب التفسير، وشروح الدواوين الشِّعرية.
ومن هنا كانت فكرة هذا البحث؛ من حيث هي محاولة لاستجلاء تراث الفروق الدلاليّة خارج إطارها الأساسيّ المتمثل في كتب الفروق؛ جمعًا لشتات هذا التّراث، ومحاولة الوقوف على ماهيته.
وكذلك الوقوف على بيان كيفيّة توظيف الفروق في شرح الأبيات الشعريّة، وإظهار الدقة في اختيار الألفاظ، ومدى مناسبتها للسّياق الواردة فيه.
وقد اخترتُ من شروح الدّواوين شرحَ ثعلب([1]) لديوان زهير بن أبي سُلمى، ومن المعروف أن ثعلبًا ممن يرون عدم الترادف بين الألفاظ، ولذا فإنه من المؤكد أن تكون فكرةُ الفروق لديه واضحةٌ، واستعملها في خدمة النّصوص التي يعمل على شرحها.
وقد استعنت في دراسة هذه الفروق على بعض مبادئ نظريات تحليل المعنى: الحقول الدلالية، والتكوين الثلاثي للمعنى، والنظرية السياقية.
ويطمح الباحث أن يتحقق من فكرة هذا البحث- مستخدمًا المنهج الوصفي، ومعتمدًا على إجراءات التحليل – من خلال جانبين أساسيين هما:
القسم الأول: الجانب النظري، ويشمل الأمور التالية:
أوَّلًا: مفهوم الفروق الدلالية.
ثانيًا: تراث الفروق في العربية.
ثالثًا: معايير التفريق الدلالي.
رابعًا: لمحات عن بعض نظريات التحليل الدلالي.
القسم الثاني: الجانب التّطبيقيّ، ويشمل الأمرين التّاليين:
الأمر الأول: أمثلة الفروق الدلالية موزعة بحسب المجالات الدلاليّة.
الأمر الثاني: معايير ثعلب في الفروق، وكيفيّة توظيفها.
([1]) هو من اللغويين والنحاة البارزين، ترجم له كثيرون سواء كانوا من مصنفي الطبقات أو من حققوا كتبه، ولذا فسوف أكتفي هنا بالإشارة إلى بعض هذه المراجع التي ترجمتْ له، ومنها: نزهة الألباء في طبقات الأدباء (202) لأبي البركات الأنباري، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي 1418-1998 إنباه الرواة على أنباه النحاة (1/173- 186) القفطي، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي- مؤسسة الكتب الثقافية، ط أولى 1406- 1986م. معجم الأدباء (2/536) ياقوت الحموي، تح: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي ط أولى 1993، بغية الوعاه في طبقات اللغويين والنحاة (1/396-398) السيوطي، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط ثانية 1399-1979م. الفهرست (80) لابن النديم، تح: رضا- تجدد، 1971م، طبقات النحويين واللغويين (141-150) للزُّبيدي، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط ثانية 1973، غاية النهاية في طبقات القراء (1/135) لابن الجزري، تح: برجستراسر، دار الكتب العلمية، ط أولى 1427- 2006م. الأعلام (1/267) لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، ط الخامسة عشرة، 2002م. معجم المؤلفين (1/223) عمر كحالة، مؤسسة الرسالة، 1957م.