حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

حد اللغة عند ابن جني بقلم أ.د/ عصام فاروق

حد اللغة عند ابن جني

لا أعتقد أن أمةً من الأمم لديها مثل هذا المخزون التراثي الثري، الذي ورثه العرب عن أسلافهم يتوانون في إخراج لآلئه وسبر عميق أغواره؛ ليرى العالمُ بأسره ما قدَّمه عباقرةُ هذه الأمة للحضارة الإنسانية، خلال عدة قرونٍ حَملَتْ فيها مشاعلَ تلك الحضارة، وآلتْ على نفسها أن تُقدِّم للبشرية ما يعمل على تقدُّمها ورخائها.

إنَّ من أشد الواجبات على الباحثين العرب الآن تجاه هذا التراث البحثَ عن تلك الجهود وهذه السطور المضيئة فيه، والتي ربما كانت ضوءًا هاديًا لكثيرٍ من الدراسات الغربية الحديثة، أقامتْ في خلاله نظرياتٍ وقعدتْ قواعدَ، وبَنَتْ علومًا؛ وما إفادة تشومسكي – وهو من أهم اللغويين المعاصرين –  من الدراسات اللغوية العربية القديمة ببعيدٍ([1]).

ولاشك أنَّ البحث في تلك الحفريات لَيحتاج إلى جهودٍ مضنيةٍ، لكنْ في الوقت نفسه هناك سطورٌ باديةٌ للعيان، لا تحتاج إلا إلى من يجلو معدنها الأصيل، ويوضح تأثيرها العميق، وامتداداتها المعرفية المتعددة.

ولا أعتقد أن حدًّا أو تعريفًا لظاهرةٍ لغويةٍ في التراث العربي بلغ شأوًا عاليًا وخلَّف تأثيرًا متعمقًا وشهرةً واسعةً مثلما بلغ الحدُّ الذي وَضَعَه ابنُ جنِّي([2]) للغةِ، في ( باب القول على اللغة وما هي؟) حيث يقول: ” أما حدُّها فإنها: أصواتٌ يُعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضِهم “([3])

وقد راعى انتباهي ما لهذا الحدِّ من وجودٍ وامتداداتٍ في كثيرٍ من المجالات المعرفية، كأنَّه أصبح علامةً ملازمةً لمصطلح اللغةِ، نتوقع حينما يَضَعُ المؤلِّفُ عنوانَ (تعريف اللغة) أنْ يُنيرَ هذا الحدُّ سطورَه التالية.

ولا أزعمُ – هنا- أنَّني في موقفِ المدافعِ عن هذا الحدِّ، في وجه ما قد يُردده البعضُ من عدم ملاءمته لمفهوم اللغة في عصر العولمة، وإنما حددتُ دوري الأساسي في هذا البحث بأن أقف بالتحليل أمام عينةٍ من الكتبِ والدراساتِ التي حَوَتْ هذا الحدَّ، مستهدفًا الوصول إلى:

  • رصدِ تأثيرات هذا الحدِّ في الفكر العربيِّ، من خلال وجودِه في كثيرٍ من المجالات المعرفية – اللغوية والشرعية بوجه خاصٍّ- وعبر أزمنةٍ عديدةٍ، وبيئاتٍ مختلفةٍ.
  • البحثِ عن أسبابِ هذا التأثير الواضح لهذا الحدِّ.
  • بيانِ مظاهرِ توظيفِ هذا الحدِّ، في المجالات المتعددة التي قد يبدو بعضُها بعيدًا عن مجال اللغة.

مبتغيًا من وراء ذلك التنبيه على صفحةٍ من الصفحاتِ المضيئةِ في التراث العربي، وحثًا إلى اكتشاف النظريات اللغوية العربية القابعة داخل طيات هذا التراث العملاق، من خلال إشارات القدماء واستنتاجاتهم القيمة.

وقد اقتضتْ طبيعةُ البحثِ أنَّ يُقَسَّم إلى النقاط التالية:

مدخل: بين يدي البحث

أوَّلًا- حدِّ اللغة عند ابن جني (امتداداته المعرفية)

ثانيًا- حدِّ اللغة عند ابن جني (أسباب اشتهاره)

ثالثًا- حدِّ اللغة عند ابن جني (مظاهر توظيفه)

([1]) ينظر في هذا على سبيل المثال: نظرية تشومسكي اللغوية (مقدمة المترجم 13) جون ليونز، ترجمة د. حلمي خليل، دار المعرفة الجامعية، أولى 1985، وتأثير الخليل بن أحمد الفراهيدي والجرجاني في نظرية تشومسكي، د. جاسم علي جاسم، بحث منشور بمجلة التراث العربي، العدد 116، سنة 1430ه-2009م، ونظرية النظم وأثرها في اللسانيات الحديثة (502) د. صالح عبد الوهاب، بحث منشور بحولية كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات ببني سويف، العدد الخامس، 2013م.

([2]) لا أراني في حاجة إلى الترجمة لابن جني، فهو من أعلام اللغويين البارزين، ولذا سأحيل على بعض المصنفات التي ترجمت له، أو حققت كتبه؛ إن دعتْ الحاجةُ إليها، ومنها: نزهة الألباء (244)، إنباه الرواة (2/335)، معجم الأدباء (1585)، بغية الوعاه (2/132)، شذرات الذهب (4/494). وللمزيد ينظر: مقدمات محققي كتبه: سر صناعة الإعراب، الخصائص، المحتسب.

[3])) الخصائص (1/33) ابن جني،  تح: محمد علي النجار، المكتبة العلمية، مصورة عن نسخة دار الكتب المصرية 1952م.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu