حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الأستاذ الدكتور/ رمضان عبد التواب وتحقيق كتاب (البلغة) [1] الجهود الخفية.. بقلم أ.د/ عصام فاروق

أستاذ أصول اللغة ووكيل كلية العلوم الإسلامية الأزهرية للطلاب الوافدين- جامعة الأزهر

يتعجب بعضُهم حينما نتحدث عن صعوبة عملية تحقيق المخطوطات، متسائلًا: لماذا كل هذه الجلبة، وذاك الصياح، والأمر لا يتعدى عملية نسخ المخطوط، ونقله من شكله الخطي القديم إلى نظيره الطباعي الحديث، خصوصًا إذا كان المخطوط يتميز بجودة الخط، ولا يعتريه سقط أو خرم أو غيرهما من الآفات، مما قد تصعب معه عملية التحقيق قليلًا؟

وهذا ظنٌ لا يُحسِن القولَ به عالمٌ بأبعاد هذه الصناعة المهمة، فليست عملية التحقيق نقل نصٍّ من حالةٍ إلى حالةٍ، أو شكلٍ إلى شكلٍ آخر، بل هي عملية معقدة ذات تشعبات تفرز لنا في نهاية المطاف نصًّا في غاية الدقة كما أراده صاحبه بحقٍ، لا مجرد أفكار تساقُ فحسب، مع غضِّ الطرف عن ما تحمله ألفاظُ النص وتراكيبه وأساليبه؛ ذلك أنه قد يبني الدارسون من بعد على عناصر ذلك النص قواعد وأحكامًا معتمدين فيها على فكرة النصِّ وألفاظه سواءً بسواءٍ، ويزداد خطر هذه المسائل حينما يتعلق بها حكم شرعي أو أصل فقهي، قد يبنيه عليها الباحثون والفقهاءُ من بعدُ.  

ولا يعتقدن أحدٌ أن جهد المحقِّق قائمٌ بعدَ نسخ النَّصِّ على ذلك الكمِّ من المقابَلات، والتعليقات، والتوثيقات الموضوعة في الهامش فحسب، بل إنَّ من تدخلاتِه في النَّصِّ ما يزيد أهميةً ويعلو قدرًا عن ذلك، وهو ما يمكن وصفه (بالجهود الخفية في التحقيق)، ولا يقف على حقيقته إلا من خبروا هذه الصناعة، وعرفوا مناهج المحققين الكبار وطرقهم ومواطن إبداعاتهم.

وسأسوق الآن نموذجًا لهذا الجهد الخفي الذي لمسته في واحدة من تحقيقات العلامة الأستاذ الدكتور/ رمضان عبد التواب- عليه من الله الرحمات- متمثلا في بعض ما قدمَّه من جهدٍ مشكورٍ في إخراج وتحقيق مصنف: (البلغة في الفرق بين المذكر والمؤنث) لأبي البركات ابن الأنباري (577ه) عليه سحائب الرحمة والرضوان.

والجانب المقصود في هذا المقام هو ضبطُ بعض كلمات النَّصِّ المُحقَّقِ- مما قد يبدو للبعض أمرًا يسيرًا، وطريقًا مهيعًا- فقد لمستُ فيما قدمه د. رمضان منهجًا قويمًا، ووعيًا عاليًا بقيمة الاحتكام في ضبط المفردات إلى ما هو أصوب أو أشهر، وهو ما حرص عليه في مواضع عديدة من مفردات هذا النَّصِّ، والتي أسوق منها هنا بعضًا مما وقفتُ عليه، مما دعاني إلى القول بأنه شكَّل منهجًا مُرادًا، ومسلكًا مقصودًا، خصوصًا في ظل خلو النسخة الوحيدة المُعتَمد عليها في التحقيق من ضَبطِ بِنْياتِ مفرداتها غالبًا، ومن ذلك ما يلي:

أولًا- ضَبَطَ كلمة (الخِوان) في قول ابن الأنباري: (( والخِوَانُ لَا يُسَمَّى مائدةً إِلَّا وَعَلَيْها طَعَام))([1])

ففي هذه الكلمة لغاتٌ ثلاث تتعاقب فيها الحركات الثلاث على الخاء؛ فقد ورد فيها: الكسر والفتح والضم، لكنّ لغة الكسر هي الأكثر كما ذكر الفيومي([2])  والأفصح كما أورد أبو بكر الرازي عن الفارابي. ([3])  وهكذا اعتمد د. رمضان على الأكثر والأفصح في ضبط هذه الكلمة.

ثانيًا- ضَبَطَ كلمة (الجِنازة) في قول ابن الأنباري: (( والجِنازَةُ لَا تُسَمَّى جِنازَةً إِلَّا أَنْ يكونَ عَلَيْها مَيَّتٌ))([4]) والمقصود به هنا ما يُحمَلُ عليه الميت.

وقد ورد في الكلمة بهذا المعنى كسر الجيم وهو الأفصح، وكذا فتحها، وهذا الفتح يجري على ألسنة العامة كما ذكر صاحب (كتاب العين)، بينما ينكرها النحارير.([5]) وهكذا ضبطها د. رمضان على الأفصحِ منهما.

ثالثًا- ضَبَطَ كلمة (الإِصْبَع) في قول ابن الأنباري: ((والإصْبَع: مُؤَنَّثَةٌ))([6])

وفي هذه الكلمة لغات عدة: ([7])

  • إِصبَع، بكسر الهمزة وفتح الباء، وهي أفصحها جميعا؛ ولعل هذا السبب في ضبط د. رمضان عبد التواب الكلمة هنا بهذه الصيغة الأفصح.
  • أَصْبَع، بفتح الهمزة والباء.
  • أُصبُع، بضم الهمزة والباء.
  • إِصبِع، بكسر الهمزة والباء.
  • أُصبَع، بضم الهمزة وفتح الباء.
  • إِصبُع، بكسر الهمزة وضم الباء.
  • أَصبِع، بفتح الهمزة وكسر الباء.
  • أَصبُع بفتح الهمزة وضم الباء.

رابعًا- ضَبَطَ كلمة (الضِّلَع) في قول ابن الأنباري: ((” و ” الضِّلَع ” و ” البَاع ” و ” العَضُد ” و ” الكَتِف ” و ” الكُراع ” كلهَا مُؤَنّثَة.))([8])

ويبدو أن هذا الضبط هو الأشهر، لتجويز الجوهري الضبط بالسكون في قوله: (( الضِّلَعُ بكسر الضاد وفتح اللام، واحدة الضلوع والأضلاع. ويقال أيضا: هم عليَّ ضِلَعٌ جائزة. وتسكين اللام فيهما جائز))([9])

خامسًا- ضَبَطَ كلمة (الإِبْط) في قول ابن الأنباري: (( والإِبْط: تذكر وتؤنث، والتذكير فيها أكثر.))([10]) بسكون الباء على الأصح، وقد ذكر بعضُهم عدم ثبوت الكسر في مثلها، يقول الفيوميُّ: (( يزعم بعضُ المتأخرين أن كسر الباء لغة، وهو غير ثابت.))([11]) مع أن (الإِبِط) بكسر الباء مما اشتهر في زماننا هذا حتى على ألسنة كثير كم المتخصصين والمثقفين، وهو ما قد يُعتَقد معه- عند عدم التحقيق- أنه الصواب لا غير.

سادسًا- ضَبَطَ كلمة (الإِبِل) في قول ابن الأنباري: ((والإِبِل: مُؤَنَّثَةٌ))([12])

فقد ضبطها د. رمضان على الوجه الأفصح، وهو كسر الباء، وهو بناء نادرٌ نَصَّ سيبويه على أنه لم يأت (فِعِل) في الأسماء إلا في هذا الحرف([13]) وقد تُخَفَّف الباء فيقال: إبْل.([14]) وإن كان واضحًا أن لغة القرآن الكريم من خلال القراءات المتواترة تُعضِّد هذا الضبطَ، فقد قرأ السبعةُ بالكسر في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾([15]) في حين قرأها الأصمعي عن أبي عمرو وابن عباس وأبو عمران الجوني (الإبْل) بإسكان الباء تخفيفًا. ([16])

سابعًا- ضَبَطَ كلمة (الضَّأْن) في قول ابن الأنباري: ((والضَّأن: مُؤَنّثَة.))([17])

في ضَبْطِ كلمة (الضَّأْن) ضَبْطٌ آخر غير مشهور بفتح الهمزة، فيقال: الضَّأَن([18])، ومن الواضح أن القراءات المتواترة تعضد هذا الضبط، فقد قرأ السبعة قوله تعالى: ﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ﴾([19]) بسكون الهمزة، بينما قرأها طلحة بن مصرف، والحسن، وعيسى بن عمر، واليماني، واللؤلؤي وعصمة كلاهما عن أبي عمرو (الضَّأَن) بفتح الهمزة.([20])

ثامنًا- ضَبَطَ كلمة (الضَّبُع) في قول ابن الأنباري: (( والضَّبُع: مُؤَنّث.))([21])

في ضبط اختلاف لهجي، فهي (( بضم الباء في لغة قيس، وبسكونها في لغة تميم))([22]) ومن ثم فقد ضبطها محقق الكتاب د. رمضان عبد التواب بالضم الذي يبدو أنه الأشهر.

تاسعًا- ضَبَطَ كلمة (العِرْس)، في قول ابن الأنباري: (( و” العِرْس “ مُؤَنّثَة. وَأنْشد:

وهَلْ هِيَ إلَاّ مثْلُ عِرْسٍ تَبَدَّلَتْ … عَلَى رَغْمِها مِن هاشِم فِي مُحارِبِ([23])))([24])      

خالف أبو البركات غيرَه من مصنفي (المذكر والمؤنث) في هذا الموضع، من حيث إنهم ذكروا حكم لفظ: (العُرس) الذي هو طعام الزفاف وحكموا عليه بالتأنيث([25]) وحكى أبو بكر بن الأنباري عن أبي عبيد جواز الوجهين فيها بهذا المعنى([26]) ووافقه الجوهري([27])

أما أبو البركات هنا فقد ذَكَرَ حُكمَ (العِرس) هنا، بمعنى: العَروس أو امرأة الرجل، كما يتضح من الشاهد الشعري التالي له، ولذا ضطبها د. رمضان بالكسر- وهو موفَّق في ذلك عليه رحمات الله- وأعتقد أنه لولا وجود هذا الشاهد لضبط الكلمة بالكسر؛ لاشتهار هذه الكلمة بالمعنى الأول في كتب المذكر والمؤنث. وهو ما فعله في الكلمة نفسها في (المذكر والمؤنث) لابن فارس([28]) لعدم ارتباط الكلمة بما يخالف معناها عند جمهور مصنفي الظاهرة.

    وهكذا تتجلى واحدة من مظاهر براعة الصناعة التحقيقية عند د. رمضان عبد التواب في إخراجه (البلغة) من خلال ضبط بعض المفردات ضبطًا يقوم على الأفصح أو الأشهر، وهي دقةٌ بالغة وعملٌ لو تعلمون عظيم. وإن كان لا يتنافى ذلك – كونه عملًا بشريًّا- مع وجود بعض أخطاء الضبط والطباعة، مما قد أوليه جانبًا من العناية في مقال مقبل إن شاء الله تعالى.

==============================

[1])) البلغة (67)

[2])) ينظر: المصباح المنير (خ. ا. ن)

[3])) ينظر: مختار الصحاح (خ. و. ن)، وكذلك: ديوان الأدب (3/372)

[4])) البلغة (67)

[5])) ينظر: كتاب العين، ومقاييس اللغة (ج. ن. ز).

[6])) البلغة (69)

[7])) ينظر: المذكر والمؤنث لابن الأنباري (1/352، 353)

[8])) البلغة (71)

[9])) الصحاح (ض. ل. ع)

[10])) البلغة (72)

[11])) المصباح المنير (أ. ب. ط).

[12])) البلغة (72)

[13])) ينظر: الكتاب (3/574)

[14])) ينظر: المذكر والمؤنث للسجستاني (153)

[15])) الغاشية (17)

[16])) ينظر: معجم القراءات (10/403)

[17])) البلغة (73)

[18])) ينظر: المذكر والمؤنث للسجستاني (153).

[19])) الأنعام من الآية (143)

[20])) ينظر: معجم القراءات (2/571، 572)

[21])) البلغة (74)

[22])) المصباح المنير (ض. ب. ع)

[23])) البيت لإسماعيل بن عمار الأسدي، ينظر: شرح الحماسة (4/1058) للمرزوقي.

[24])) البلغة (75)

[25])) ينظر: المذكر والمؤنث للفراء (75)، وللسجستاني (138)، والمختصر للمفضل (335)، ولابن التستري (93)، ولابن جني (81)، وكذا ابن فارس (57).

[26])) ينظر: المذكر والمؤنث له (1/462).

[27])) ينظر: الصحاح (ع. ر. س)

[28])) ينظر: المذكر والمؤنث له (57).

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu