Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

لمحاتٌ من التوجيه اللغوي للقراءات السبع في (سورة الممتحنة) بقلم أ.د/ عصام فاروق

هذه لمحات سريعة لتوجيه القراءات السبع الواردة في سورة الممتحنة، مع محاولة ربطها بالمستوى اللغوي الذي تنتمي إليه:

  1. قال تعالى: )لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( [الآية: 3]

قرأ عاصم ) يَفْصِلُ ( بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ) يُفْصَلُ ( بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخففة.

وقرأ حمزة والكسائي ) يُفَصِّلُ ( بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة.

وقرأ ابن عامر ) يُفَصَّلُ ( بضم الياء وفتح الفاء وفتح الصاد مشددة. ([1])

التوجيه:

من قرأ ) يَفْصِلُ ( و) يُفَصِّلُ ( أسند الفعل فيهما إلى ضميرٍ يعود إلى الله عز وجل، وقد يدل عليه السياق الكلي للقرآن الكريم ففي سورة الأنعام ) إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ([الآية: 57]، ويُفرِّق بين القراءتين التخفيف والتشديد فـ ) يَفْصِلُ ( من الثلاثي المجرد (فَصَلَ)، بينما ) يُفَصِّلُ ( من الثلاثي المزيد بحرف (فَصَّلَ).

ومن قرأ ) يُفْصَلُ ( و) يُفَصَّلُ ( بنى الفعل لما لم يُسمَّ فاعلُه (= مبني للمجهول)، للعلم بالفاعل وهو الله عز وجل، فلا فاصل بين الناس يوم القيامة سواه سبحانه،  ويفرق بين القراءتين أيضا التخفيف والتشديد، ” والتشديد فيه معنى التكثير، والتخفيف يحتمل التكثير والتقليل.” ([2])

وعلى ذلك فإن ) يَفْصِلُ ( و) يُفْصَلُ ( تختلفان في حالة البناء للمعلوم أو للمجهول، وتتفقان في أنهما من الثلاثي المجرد (فَصَلَ).

وكذلك تختلف ) يُفَصِّلُ ( و) يُفَصَّلُ ( في حالة البناء، وتتفقان في أنهما من الثلاثي المزيد بحرف (فصّل).

وكل هذه الاختلافات تنتمي إلى (المستوى الصرفي) سواءً (الحالة الفعلية: للمعلوم والمجهول) من وجهٍ أو (اختلاف الأبنية: المجرد والمزيد) من وجهٍ آخر.

  1. قال تعالى: ) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( [الآية:4]

وقال تعالى:  )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ( [الآية: 6]

قرأ عاصم ) أُسْوَةٌ ( بضم الهمزة في الموضعين. وقرأ الباقون ) إِسْوَةٌ ( بكسر الهمزة. ([3])

التوجيه:

هما لهجتان في هذه الكلمة، ومعناها: قدوة، وقد نسبهما البنا الدمياطي فجعل (أُسوة) بالضم لغة قيس وتميم. و(إسوة) بالكسر لغة الحجاز.

وتتماشى هذه النسبة مع القواعد الصوتية اللهجية غير المطردة التي وضعها العلماء للتفريق بين لهجات الحضر والبدو. يقول د. إبراهيم أنيس:”مالت القبائل البدوية بوجه عام إلى مقياس اللين الخلفي المسمى بالضمة؛ لأنه مظهر من مظاهر الخشونة البدوية، فحيث كسرت القبائل المتحضرة وجدنا القبائل البدوية تضم.. والكسرة دليل التحضر والرقة في معظم البيئات اللغوية.” ([4])

يدخل هذا الاختلاف تحت (المستوى الصوتي) وعلى وجه التحديد (الإبدال بين الصوائت).

  1. قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( [الآية: 10]

قرأ أبو عمرو ) وَلَا تَمْسِّكُوا ( بفتح الميم وتشديد السين.

وقرأ الباقون ) وَلَا تُمْسِكُوا ( بضم الميم والسين مخففة. ([5])

التوجيه:

من قرأ ) وَلَا تُمْسِكُوا( جعله من (أَمْسَك يُمسِك)، وهو نهي عن مجرد الإمساك بالمرأة إذا ارتدت عن الإسلام.

ومثله مواضع عديدة، منها: قوله تعالى:) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ([البقرة من الآية: 229]، وقوله تعالى:) وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا ( [البقرة من الآية: 331].

ومن قرأ ) وَلَا تَمْسِّكُوا ( جعله من (مسَّك يَمَسَّك)، ومعناه ” أن المرأة إذا ارتدت عن الإسلام فزالت عصمة النكاح بينها وبين زوجها المؤمن فلا يتبعها الزوج بعد انبتاتها عنه.” ([6]) ومنه قوله تعالى: ) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ( [الأعراف من الآية: 170]. فقد قرأه جمهور السبعة بالتشديد وأبو بكر وحده مخففًا. ([7])

وسبق أن قلنا إن التشديد فيه معنى التكثير، ويمكن إضافة الإلحاح في التمسك في هذا الموضع.

ومن الواضح أن هذا الاختلاف ينتمي إلى (المستوى الصرفي)، وتحديدًا اختلاف (الأبنية الصرفية)، ما بين (الأفعال المزيدة).

===========================

([1])  ينظر: التيسير في القراءات السبع (170)

([2])  الكشف (2/318)

([3])  ينظر: التيسير في القراءات السبع (170)

([4])  في اللهجات العربية (91)

([5])  ينظر: التيسير في القراءات السبع (170)

([6])  معاني القراءات (487، 488).

([7])  ينظر: التيسير في القراءات السبع (94)