حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الصفات الفارقة بين المصوتات العربية.. بقلم أ.د/ منى عبد الظاهر الشامي

أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية البنات الإسلامية بأسيوط جامعة الأزهر

أقمتُ هذا المقال على نظرية الصفات الفارقة في الوحدات الصوتية([1]) من منظور فسيولوجي وفيزيائي.

أولًا: الخصائص الفسيولوجية للمصوتات: (من ناحية وضع اللسان، وضع الشفتين، الترددات المتكونة في الفراغات الرنانة أثناء النطق)

(أ): مصوت الفتح:   

الفتح: هو الصوت الخفي الذي يحدث عند فتح الشفتين عند النطق بالحرف, ويسمى فتحة أو نصبة. وإن مدت كانت ألفًا وإن قصرت فهي فتحة.([2])

 فالمفتوح هو: الذي إذا أشبعت حركته حدث عنها ألف, نحو ضاد ضَرَب, لك أن تشبع الفتحة, فتقول: ضارب.([3])

وهو: صوت مهتز يتسع معه مجرى الهواء لأقصى درجة, وتتخذ الشفتان معه وضع الحياد. بناءً على خصائصه الصوتية ـ كما سيأتي ـ .

*خصائصه الصوتية:

   صرح ابن سينا في حديثه عن الصوائت أن الفتح هو أوسع المخارج, والهواء معه غير معترَض فلا يعوقه عائق, ولا يحدث له حصر ولا ضغط, حيث قال: «الألف المتولدة من إطالة الصوت بالفتحة من الحروف التي اتسعت مخارجها بل وأوسعها وألينها، فمع الألف تجد الحلق والفم منفتحين، غير معترضين على الصوت بضغط أو حصر.»([4])

ويمتاز الفتح بكونه صائتًا وسطيًا, متسعًا, محايدًا, أي: أن أعلى نقطة في اللسان أثناء النطق به تكون وسطه, وتنحو نحو مركز الوسط في الحنك الصلب, أما الجزء الأمامي من اللسان فيكون أبعد ما يمكن من الحنك الصلب, في حين يبقى الفم مفتوحًا بشكل واسع, وتكون حجرة الرنين فيه كبيرة. أما وضع الشفتين فتكونان مسطحتين وبالكاد منفرجتين, فهما في وضع محايد([5]), ويتسع ممر الهواء بسبب انخفاض اللسان في قاع الفم([6]).

وهذه الصفات تتناسب مع المعاني الممتدة والمتسعة. ويؤكد ذلك الامتداد الحادث في مصوت الفتح ومناسبته للمعاني الممتدة ما جاء به ابن القيم في حديثه عن الألف حيث قال: «فالألف يمتد بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها»([7])، ويرشح ذلك أيضًا كبر حجرة الفراغ الصوتي أو المرن الصوتي([8]) أثناء نطقه, فينتشر المصوت. حيث يمر الهواء حرًا طليقًا دون عائق أو تضييق، وبالنظر في هذه الحرية تجد الفتحة هي ذات النصيب الأوفى من هذه الحرية([9]).

ويزيد في توضيح كونها صوتا ممتدا كونها محايدة: وذلك بالنسبة للشفتين, حيث تفتحان بصورة محايدة([10])، فلا انكسار ولا انغلاق لهما، فهما في وضع مستو ومنبسط, فتناسب ـ غالبًا ـ المعاني الممتدة والمتسعة والمنبسطة والمنتشرة. 

إذن فالفتح مصوت يمتاز بكونه: خفيفًا, ـ مرققًا ـ متسعًا, منتشرًا, محايدًا([11])، وهذه الصفات تؤكد كونه ضعيفًا لا يحتاج لكلفة ولا مشقة في الخروج، فيمتاز بالامتداد والانفتاح.

وبالنظر لزمن تردد الفتحة وزمن تردد الكسر والضم تجد الفرق بينهما واضحًا؛ لأن الجهد المبذول في نطق الفتحة أقل من الجهد المبذول في نطقهما, وهذا دليل على أن الفتحة أخف الحركات وأسرعها([12]). فتمتاز بالانتشار والسرعة.

(ب) مصوت الكسر:

الكسر هو: حركة ينكسر لها المخرج، ويهوي إلى أسفل([13])،  ومنها أخذ المكسور وهو: الذي إذا أشبعت حركته حدثت عنها ياء, نحو: ضاد ضِرَاب, لك أن تشبع الكسرة، فتقول: ضيراب([14]).

فالكسر: صوت مهتز يتسع معه مجرى الهواء وتنفرج معه الشفتان طبقًا لخصائصه الصوتية.

*خصائصه الصوتية:

يقول ابن جني في وصفه للوضع الذي تكون عليه أعضاء النطق عند خروج الياء: «…وأما الياء فتجد معها الأضراس سفلًا وعلوًا قد اكتنفت جنبتي اللسان وضغطته، وتفاج الحنك عن ظهر اللسان، فجرى الصوت متصعدًا هناك، فلأجل تلك الفجوة ما استطال»([15]) فنراه يبين كيف أن الأضراس أحاطت بجانبي اللسان؛ فمنعته من التوتر, وضغطته فانحصر الهواء وحبس ومنع من الاستطالة قبل خروجه. ولا يخفى علينا أن هذا وصف للياء الصامتة وليس للمصوتة، والفرق بينهما طفيف يتمثل في احتكاك الهواء أثناء مروره, فإن مر الهواء مع حدوث احتكاك طفيف نتج عنه نصف العلة الياء, وإن لم يحدث احتكاك مسموع نتج عنه صوت الكسر وياء المد([16]).

ووصف ابن سينا الشفتين عند خروج الكسر, فقال: «وأما الياء المصوتة وأختها الكسرة فأظن أن مخرجهما مع إطلاق الهواء مع أدنى تضييق للمخرج وميل به سلس إلى أسفل»([17])، فكأن هواءها ينزل إلى أسفل مع انفراج الشفتين([18])، فالشفتان أثناء النطق به يحدث لهما شيء من الانكسار، ما يترتب عليه تسفل الهواء الخارج معها, فلا تحدث له استطالة بسبب ضغط الأضراس على جنبي اللسان, حيث يحدث له حصر وحبس لضيق المخرج مقارنة بالفتح.

وربما حمل ذلك أحد العلماء المحدثين في أثناء حديثهم عن فلسفة الحركات جعل الكسرة تستخدم غالبًا فيما يشير إلى الانهزام والخضوع والرضوخ من المعاني([19]).

فالكسر صائت أمامي, أي: أن الجزء الأمامي من اللسان يكون لدى النطق به أقرب ما يمكن من الجزء الأمامي من الحنك الصلب؛ وتكون حجرة الرنين الفمية في أصغر حجم لها كما يكون الفم مفتوحًا بالكاد, وتكون الشفتان مشدودتين أقصى ما يمكن لها من الشد([20]). منفرجتان.

وعند نطق مصوت الكسر تنخفض الشفة السفلى إلى أسفل عند التلفظ به؛ وقد ربط بعض علماء اللغة المحدثين هذه الطريقة في النطق بدلالتها على معاني الخفض والخفاء والصغر([21]).

إذن فعند خروج مصوت الكسر  يحدث إحاطة لجانبي اللسان بواسطة الأضراس فيحدث حصر للهواء وحبس وعدم استطالة, وتسفل للهواء بسبب ما يحدث من انكسار للشفة السفلى أثناء خروجه, إذن فهو يمتاز بالحبس والحصر والانكسار, بجانب الثقل والشدة, والانفراج.

(ج) مصوت الضم:

الضم: حركة تُضَم لها الشفتان([22])، ومنه أخذ المضموم وهو: الذي إذا أشعبت حركته حدثت عنها واو, نحو: ضاد ضُرِبَ, لك أن تشبع الضمة, فتقول: ضورب([23]).

 فهو صوت مهتز يتسع معه مجرى الهواء وتستدير معه الشفتان ، تبعًا لخصائصه الصوتية.

*خصائصه الصوتية:

     الضمة: صائت خلفي, أي: أن الجزء الخلفي من اللسان يكون لدى النطق به أقرب ما يمكن من الحنك اللين واللهاة، وتكون بذلك حجرة الرنين الفموية صغيرة جدًا في وضع اللسان هذا، وتكون فتحة الفم ضيقة, إلا أن فجوة الفم تكون أكبر في نطقه منها في نطق الكسرة؛ لأن الفك الأسفل يكون أشد انخفاضًا بحيث يسمح للسان أن يرتد إلى الخلف، أما الشفتان: فإنهما تكونان مفتوحتين بالكاد, ومتقدمين نحو الأمام بشكل مدور([24])، فالشفتان تكونان مستديرتين أقرب للانضمام عند النطق بمصوت الضم.

وعن وضع الشفتين تحديدًا معه يقول ابن جني: «والحروف التي اتسعت مخارجها ثلاثة: الألف، ثم الياء، ثم الواو…وأما الواو فتضم لها معظم الشفتين، وتدع بينهما بعض الانفراج؛ ليخرج فيه النفس، ويتصل الصوت»([25])، فكون الشفتين مضمومتين عند النطق به. ذلك يوحي بالانغلاق فيناسب ـ غالبًا ـ المعاني الدالة على كف الفعل وتوقفه ومنعه.

وعن وضع الهواء في الفم عند خروجها يقول ابن سينا: « وأما الواو المصوتة وأختها الضمة فأظن أن مخرجهما مع إطلاق الهواء مع أدنى تضييق للمخرج وميل به سلسًا إلى فوق»([26]).

فمصوت الضمة يلحظ عند خروجه انضمام معظم الشفتين, فيتجمع الهواء ويتصعد لأعلى؛  ليخرج مـن هـذه الفرجة الصغيرة التي تكون بين الشفتين؛ لذلك فهو يستخدم ـ غالبًا ـ في «المعاني الدالة على التجمع, والكثرة, والتراكم»([27]).

وأيضًا بما أنه من الحركات الخلفية فهي في الأعم الأغلب, أقصر في زمن نطقها من الحركات الأمامية المقابلة لها.([28]) وهذا القصر الزمني يوحي ـ غالبًا ـ بقصر الحدث الدال عليه وعدم استطالته وامتداده.

مما سبق نستنتج أن مصوت الضم بطبيعته المضمومة والخلفية يناسب الأحداث القصيرة غير الممتدة والمجتمعة في حيز ضيق ومحدود.

ثانيًا: خصائص المصوتات من الناحية الفيزيائية (الخفة والثقل)

تعد الفتحة أوضح المصوتات من الناحية السمعية, تليها الضمة, ثم الكسرة, وأثقلها من الناحية النطقية هي الضمة, ثم الكسرة, ثم الفتحة, يقول الفراء: « يستثقل الضم والكسر؛ لأن لمخرجيهما مؤونة على اللسان، والشفتين تنضمّ الرَّفعة بِهما؛ فيثقل الضمَّة، ويُمالُ أحد الشِّدْقين إلى الكسرة فترى ذَلِكَ ثقيلًا، والفتحة تَخرج من خَرْقِ الفم بلا كُلْفة»([29]).

 ويقول الإيجي: «إن أوسع المصوتات باعتبار انفتاح الفم هو الألف ثم الياء ثم الواو، وأثقلها الضمة المحتاجة إلى مزيد تحريك الشفتين، ثم الكسرة، ثم الفتحة، فقد جعل الحركات داخلة في المصوتات، فلذلك انقسمت المصوتة إلى: مقصورة هي الحركات، وممدودة هي الحروف المخصوصة»([30]).

ويقول د.أنيس: « وليست كل أصوات اللين ذات نسبة واحدة في الوضوح السمعي، بل منها الأوضح، فأصوات اللين المتسعة أوضح من الضيقة, أي: أن الفتحة أوضح من الضمة والكسرة»([31])، فالصوائت المنفتحة هي في الجملة أشد بروزًا من الصوائت الضيقة([32]).

ومن ثم كان هذا التفاوت في الوضوح السمعي والخفة والثقل سببًا في تباين نسبة ورود المصوتات الثلاثة في النطق العربي, إذ تجد الفتحة أكثر المصوتات ورودًا([33]).

وعرض لمثل هذه المناسبات الواقعة بين المصوتات والمعنى كثير من علماء اللغة, منهم:

 ابن جني حيث يقول: «فجعلوا الضمة لقوتها فيما يكثر حجمه، والكسرة لضعفها فيما يقل بل يعدم ارتفاعه»([34]).

 ويقول ابن القيم: «وأنهم في الغالب يجعلون الضمة -التي هي أقوى الحركات- للمعنى الأقوى، والفتحة –الخفيفة- للمعنى الخفيف. والمتوسطة للمتوسط. فيقولون: عزّ يعَز، بفتح العين: إذا صلب، وأرض عَزاز: صلبة. ويقولون: عز يعِزّ- بكسرها-: إذا امتنع»([35]).

ويقول أيضًا: «وكان الكسر في هذا الموطن أولى؛ لأنه أثقل من الفتح, والثقل أولى أن يعتمد عليه ويصدر الكلام به, والفتح أولى بما جاء بعد الكلام لخفته.»([36])

فهل ثمة تناسب بين خصائص المصوتات الفسيولوجية والفيزيائية، وبين الدلالات الإفرادية للفظة التي تتناوب المصوتات القصيرة عليها فيما يعرف بالمثلثات اللغوية مختلفة المعنى فينتج عن هذا التناوب اختلافٌ في الدلالات أم لا؟

سنجيب عن هذا السؤال في المقالات القادمة بعون الله تعالى

====================

([1]) لمعرفة المزيد حول النظرية, ينظر بحث: المصوتات العربية بين الإفراد والتركيب دراسة وصفية في ضوء نظرية الصفات الفارقة, د. البركاوي,  ص472 وما بعدها.

([2]) ينظر: بدائع الفوائد (1/35)

([3]) ينظر: سر صناعة الإعراب (1/27)

([4]) ينظر: سر صناعة الإعراب  (1/8)

([5]) ينظر: علم الأصوات العام, د. بسام بركة, ص132

([6]) ينظر: مقدمة في أصوات اللغة العربية, د. عبد الفتاح عبد العليم البركاوي, ص151.

([7]) بدائع الفوائد (1/96)

([8]) ينظر: علم الصوتيات ص 194.

([9]) ينظر: علم الأصوات,  د. كمال بشر, ص217

([10]) ينظر: علم اللغة مقدمة للقارئ العربي, د. محمود السعران, ص184

([11]) ينظر: مقدمة في علم أصوات العربية,  د. عبد الفتاح عبد العليم البركاوي, ص83

([12]) ينظر: الإعراب في العربية صوتيًا ودلاليًا بين القديم والحديث مقاربة لسانية, د. سمير شريف استيتية ص77

([13]) المطالع السعيدة في شرح الفريدة, جلال الدين السيوطي (1/139)

([14]) سر صناعة الإعراب (1/27)

([15]) سر صناعة الإعراب (1/8)

([16]) ينظر: دراسة الصوت اللغوي, ص317.

([17]) رسالة في أسباب حدوث الحروف, ص84.

([18]) ينظر: مدخل إلى علم الأصوات العربية, د. أحمد على محمود ربيع, ص89

([19]) ينظر: فلسفة الحركات في اللغة العربية, أحمد الأخضر غزال, ص70

([20]) ينظر: علم الأصوات العام, د. بسام بركة, ص131.

([21]) ينظر: أصوات الحركات العربية دراسة دلالية جمالية, د. منال محمد هاشم نجار, ص19

([22]) ينظر: المطالع السعيدة (1/139)

([23]) سر صناعة الإعراب (1/27)

([24]) علم الأصوات العام, د. بسام بركة ص132.

([25]) سر صناعة الإعراب (1/21) وينظر: علم اللغة مقدمة للقارئ العربي, ص184.

([26]) رسالة في أسباب حدوث الحروف, ص84.

 ([27])ينظر: فلسفة الحركات في اللغة العربية, ص70.

([28]) ينظر: الأصوات اللغوية رؤية عضوية ونطقية وفيزيائية ص250.

([29]) معاني القرآن, أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي الفراء, (2/13)

([30]) كتاب المواقف, عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي, (2/25)

([31]) الأصوات اللغوية , ص27 وما بعدها.

([32]) ينظر: علم اللغة مقدمة للقارئ العربي, ص151.

([33]) العربية الفصحى دراسة في البناء اللغوي, هنري فليش, ص50

([34]) المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها, أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي, (2/ 19)

([35]) تفسير القرآن الكريم لابن القيم , ابن قيم الجوزية, ص209

([36]) بدائع الفوائد (2/ 69)

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu