كان العرب يقرأون ويكتبون اللغة صحيحة مستوفية لقواعدها اللغوية؛ لأنهم أهل بلاغة وفصاحة، وأصحاب قدرة فائقة، وموهبة إلهية للتحكم في لغتهم، وليست مكتسبة بالتلقي والتعلم، بل غريزة في نطقهم فطرهم الله عليها، وكانت لهم ملكة قوية لا يحتاجون بها إلى وضع علامات لتمييز الحروف المتشابهة في الصورة، فيدركون من سياق المقام وقرائن الأحوال المعنى المراد. لذلك لم يكن الشكل والإعجام معروفًا عندهم. وفي بدء ظهور الشكل والنقْط استقبح بعض الكتاب ذلك في المكاتبات، ورأوه من تقصير الكاتب، أو سوء بفهم المكاتَب، وكان استقباحهم لذلك في مكاتبة الرؤساء أكثر ([1]).
من خلال ذلك نرى أن الإشارة إلى النقْط بنوعيه (الحروف والحركات) لم يكن معروفًا في الجاهلية وعصر صدر الإسلام، وليست هناك إشارات أو علامات للإعراب تشكل بها الحروف وتضبط بها الكلمات، حتى تؤدي المعنى المقصود منها وفقًا لقواعد اللغة العربية الصحيحة.
ولعل هذا يرجع إلى «قوة الذاكرة اللغوية مع قلة المحصول المستعمل من اللغة في أول أمرها، ويمكن القول بأن المكتوب ربما كان معروفًا في الذاكرة قبل قراءته، والكتابة العربية قد أدت دورها عندما كانت الذاكرة اللغوية أو ما يسمى بالملَكَة قوية، والمستعملون قليلون، والأغراض محدودة، ولكنها عندما واجهت عكس ذلك ظهر فيها النقص، واحتاجت إلى الإكمال، كما احتاجت اللغة إلى التقنين، ووضع النظم» ([2]). وقبل أن نتحدث عن الضبط المصحفي ومراحله، نتحدث عن توثيق النص القرآني وكتابته، وكيف دُوّن، حتى وصل إلينا على هذه الصورة التي بين أيدينا اليوم.
أولاً : كتابة القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:
لم يكتف الرسول – صلى الله عليه وسلم- بحفظ القرآن وإقرائه لأصحابه وحفظهم له، وإنما اتخذ لنفسه بضعة كُتَّاب يكتبون القرآن ويقيدونه في الرِّقاع ونحوها.
قال ابن حجر: أول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح. ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، وأول من كتب له بالمدينة أُبى بن كعب، ثم زيد بن ثابت، وممن كتب له بالجملة، الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، وحنظلة بن الربيع الأسدي، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة، ويزيد بن أبي سفيان، وأخوه معاوية بن أبي سفيان وغيرهم، وكان زيد بن ثابت من ألزم الناس لذلك، ثم تلاه معاوية بعد الفتح، فكانا ملازمين الكتابة بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في الوحي، وغير ذلك في تدوين الرسائل التي كان يكتبها للملوك والرؤساء، يدعوهم إلى الإسلام، وقد بلغ عددهم ثلاثة وأربعين كاتبًا.
وكان – صلى الله عليه وسلم- يأمر الكتبة بكتابة ما نزل من كتاب الله عليه لحظة تلاوته لما نزل عليه بعد انصراف الأمين جبريل عليه السلام، ويرشد إلى موضعه، حسب ما أرشده بذلك الأمين جبريل عليه السلام ([3]).
وروى أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم، من حديث عبد الله بن عباس، عن عثمان بن عفان قال: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مما يأتي عليه الزمان، ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» ([4])
ولم يكن الورق ميسرًا لهم في ذلك الوقت، فكتبوا على العُسبُ واللِّخاف والأكتاف والحجارة والعريض من العظم، وقد كتب القرآن كله بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وكان مكتوبًا بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ([5])
وكانوا يحفظون ما كتبوه، فهم أقدر الناس على فهم القرآن؛ لأنه نزل بلغتهم، وشاهدوا الأحداث التي نزل فيها القرآن.
ومن الأحاديث التي تُبَيِّن تدوين القرآن في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم- ما رواه خارجة ابن زيد فقال: «دخل نفر على زيد بن ثابت، فقالوا: حدّثنا بعض حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال: ماذا أحدثكم. كنت جار رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فكان إذا نزل الوحي أرسل إليّ، فكتبت الوحي، وكان إذا ذكرنا الآخرة، ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الدنيا، ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام، ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عنه»([6]) .
من هذا ندرك مدى حرص الرسول – صلى الله عليه وسلم- على القرآن، وتدوينه فور نزوله أولًا بأول حسب ما تلقَّاه من الأمين جبريل عليه السلام فيقرأه عليهم ويأمر بتدوينه.
كما كانت هناك وسيلة أخرى لتدوين النص القرآني غير الكتابة، وهي حفظه في صدور المسلمين من الرجال والنساء، فقد كان هناك بعض من الصحابة حفظ القرآن على الرسول- صلى الله عليه وسلم- في حياته.
فقد نقل الزركشي عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: مَنْ جمع القرآن على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب, ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد ([7]).
وقد نفى كثير من العلماء هذا القول الذي يحدد الحفظة وقلتهم، وأقاموا الأدلة على أنهم أضعاف هذه العدة المذكورة، ويشهد لذلك كثرة القراء المقتولين يوم مسيلمة باليمامة، وذلك في أول خلافة أبي بكر، وغير ذلك من النصوص التي تبين لنا أن حفظة القرآن في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- كانوا جَمْعًا غفيرًا([8]).
وهذه ميزة من مميزات هذه الأمة كما ذكر ابن الجزري، فقال: إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة ([9]).
وبذلك دُوّن القرآن وحفظ أيضًا في الصدور، وفي ذلك حفظ له وصيانة له، ولم يوجد كتاب مقدَّس أحيط بالرعاية والعناية، فحوفظ على تراكيبه، وكيفية ترتيله بلهجاته مع إتقان وضبط لا نظير لهما، سوى القرآن الكريم، مصداقًا لقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]
=============================
([2]) في علم الكتابة العربية: ص118, 119 بتصرف.
([3]) انظر: فتح الباري: 9/22، دراسات في تاريخ الخط العربي، د. صلاح الدين المنجد: ص23، الإتقان: 1/78، في رحاب التفسير للشيخ كشك: 1/29، الخطاطة الكتابة العربية: ص42.
([5]) الإتقان: 1/78، في رحاب التفسير: 1/39.
([6]) كُتَّاب المصاحف للسجستاني: ص3.
([7]) البرهان: 1/241، وانظر: الإبانة عن معاني القراءات لمكي: ص68 ـ77.
([8]) انظر: السابق: 1/241 ـ243، مباحث في علوم القرآن للشيخ القطان: ص104, 105.