في الجاهلية كانت اللغة ذات بُعدين :
البُعد الأول : استعمالي نفعي
يتم من خلاله التعامل مع اللغة على أنها أداة تفاهم بين المتكلمين.
البُعد الثاني : إبداعي بلاغي مثالي
فيه اللغة أداة الفن ، ريشة الشاعر، ومزمار الأديب .
كان للأمم الأخرى الرسم والنحت والعمارة والتمثيل والمسرح، وكان للعرب اللغة : هي الرسم والنحت والتمثيل والمسرح لديهم.
ولكنها في هذا وذاك لم تتجاوز المنطوق والشفاهي، ولم تُدوَّن .
بعد نزول الكتاب العزيز اكتسبت اللغة قيمة أخرى ، و أخذت في التعامل بُعدًا آخر ، وهو البُعد الديني ؛ كونها لغة الوحي ، وكلام السماء إلى الأرض ، ومفتاح فهم دستور المسلمين ، و الإعجاز مرتبط بها ، وهذه عوامل أدت إلى انتشارها بانتشار الإسلام في أكثر الأرض في مدة وجيزة.
تطورَ التعامل مع اللغة فيما بعد مع انتشار الفتوحات، وانسياح العرب في البلدان ؛ فاختلطت العربية بغيرها من اللغات أنواعًا من الاختلاط ، أثَّرت وتأثرت ، ودخل فيها ألفاظ لم تكن منها ، وانتشر اللحن على الألسنة .
حينئذٍ انطلقت طائفةٌ من العلماء لجمع مفردات اللغة وتدوينها ، وكانت أعمالهم هي النواة لعلم المعجمات : ما بين معاجم للألفاظ وشرحها كالعين للخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت 170هـ ) ، ومعاجم للمعاني كالرسائل التي تركها الأصمعي ( ت 217 هـ ) مثل : خلق الإنسان ، كتاب أسماء الوحوش وصفاتها ، كتاب الإبل ، كتاب الشاء ، كتاب الخيل .، والتي اكتملت لدى ابن سيده ( ت 398هـ ) في كتابيه ( المخصص ، والمحكم والمحيط الأعظم ) .
في مرحلة الجمع الأول عوملت اللغة معاملة الحديث النبوي الشريف في آليات الجمع والتوثيق ، وصُنِّفت كما تُصنَّف الأحاديث النبوية فكان فيها الصحيح ، والضعيف، والغريب ، والشاذ ، والعزيز ، والنادر ، والموضوع ، والمتواتر ، والآحاد، والمرسل، والمنقطع…
واشتُرط في الرواة ما يُشترط في رواة الحديث من العدالة ، والضبط ، والنزاهة .
قال ابن فارس : ” تؤخذ اللغة سماعًا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ، ويُتَّقى المظنون ” ([1]) .
وقال الشافعي ( ت204هـ): ” والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند الفقهاء ” ([2]) .
واللفظ هنا مشحون بطاقة دينية بغض النظر عن معناه ، والحرصُ على جمعه وتوثيقه يعدلُ الحرصَ على جمْعِ الحديث النبوي ، وتدوينُه يعني الحفاظ على رسمه ، وكتابة البقاء له.
تُمثِّل تلك المفردات المجموعة متنَ اللغة العربية ، والعلم بها هو الذي كان القدماء يسمونه ( علم اللغة ) ، ويجعلونه المدخل لعلم الأدب ([3])، والمدخل لعلم البلاغة ([4]).
مع جمع المفردات اللغوية كان ثمة علماء أُخر يجتهدون في صياغة مواد القانون اللغوي نظرًا لانتهاكات (النموذج/ المثال) على الألسنة ، وشيوع اللحن .
كان النحاة يحاولون تقعيد الكلام العربي بحيث لا يتجاوز سمتَ العربِ في كلامها؛ فالنحو: انتحاءُ سمْتِ العرب في كلامها، وسُمِّي النحو وقتئذٍ علم العربية .
فأخذت اللغة على أيديهم بُعدًا آخر في طريقة التعامل ، وهو تناول الجمل والأساليب ، وما يوافق منها العربية ، وما يخالفها، وأخذت الكتب تنظِّم القواعد التي ينبغي أن تكون عليها لغة الكتابة والخطابة؛ لتوافق النظام العربي .
و سواء في التعامل على مستوى المفرد أو على مستوى الجمل تم استدعاء الشعر القديم ( الذي كان للفن فقط)، وتقديمه على أنه وثائق لغوية لترجيح القاعدة ، وهنا يكتسب الشعر القديم قيمة دينية لم تكن له ، فقد أصبح الشاهد على القاعدة ، أي جواز المرور للتعبير بالجملة ، والشاهد على استعمال المفردات والجمل القرآنية.
واعتمده النحاة ، ولم يعتمدوا الحديث النبوي – في مفارقة عجيبة –، ولكنها تبيِّن شدة التحري في النص محل الشاهد؛ وحجة النحاة – في منع الاستشهاد بالحديث – أن الأحاديث مرويةٌ بالمعنى ، وليست – في أكثرها – من ألفاظ النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وكان أكثر رواة الحديث من الأعاجم .
ولكن القضية كانت محل تساؤل من علماء اللغة المعاصرين ([5]).
على جانب آخر كان العلماء يترصدون المفردات الدخيلة على العربية ، كما يرصدون الانحراف في نطق بعض الكلمات نتيجة الاختلاط باللغات الأخرى ، وفتحوا بابًا آخر من الدرس اللغوي ، والذي يُعنى بتصويب الأخطاء ، وتقويم الألفاظ ، لتتمشَّى مع اللفظ العربي ، وكان من أوائل المصنفين فيه عليُّ بن حمزة المعروف بالكسائي ( ت 189 هـ ) بكتابيه : لحن العامة ، و ما تلحن فيه العامة.
وتوالت المصنفات في هذا الباب فجاء على نظمها:
البهاء فيما تلحن فيه العامة ، للفرَّاء ( ت 207 هـ ) .
ما تلحن فيه العامة ، لأبي الهيدام كلاب بن حمزة العقيلي ( ت 207 هـ) .
ما تلحن فيه العامة ، لأبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي ( ت 221هـ) .
الفصيح ، لثعلب ( ت 291هـ ) .
ما تلحن فيه العامة ، لثعلب.
الفاخر فيما يلحن فيه العامة ، لأبي طالب المفضَّل بن سلمة بن عاصم الكوفي.
إلى غيرها من الكتب والرسائل التي استمرت إلى العصر الحديث ، تتعقب الألفاظ والأساليب المستعملة على الألسنة، وتقوم بتصويبها .
فانظر؛ كم مُستوى كانت فيه اللغة قبل الإسلام ، وكم مستوى وصلت إليه بعده؟
قبل الإسلام لم تكن إلا وسيلة تخاطب، أو مجالَ إبداع.
بعد الإسلام اكتسبت بعدًا دينيًّا ، فعومل اللفظ معاملة الحديث النبوي، واكتسب الشعر مكانة دينية كونه الشاهد لاستعمال المفرد أو المركب ، وخضعت اللغة لمناهج من البحث لم تكن عليها من قبل ، ما بين المنهج الشارح للمفردات كما في المعاجم ، والمنهج الضابط للنظام اللغوي كما في كتب النحاة ، والمنهج المتتبِّع لسقطات العوام وانحرافات الألفاظ ، كما في كتب التصويب اللغوي.
ولأن القرآن الكريم نص لُغوي كان العلم باللغة أول درجات التعامل مع الكتاب العزيز، فينبغي على من يتصدَّى لتفسيره أن يكون عالمًا بها متبحِّرًا فيها ، وإذا كانت المستويات السابقة من التعامل اللغوي – مع ما فيها من الحذر – تقف مع اللغة في إطار النشاط البشري فإنها – في التناول القرآني – تخضع جميعًا للتحليل والدرس بغية الوصول لحقيقة النص القرآني ، مع ما في ذلك من قيمة دينية تكتسبها الوسيلة من الغاية.
( الوسيلة هي اللغة: مفردات وقواعد وشعرا، والغاية هي القرآن)
اعتمد المفسرون لغة العرب مرجعية في الحكم على اللفظ القرآني، وفي سبيل ذلك قُدِّم الشعر على أنه الشاهد لهذه اللغة بالقبول ، والعَلَم في ذلك مسائل نافع بن الأزرق التي سألها عبدَالله بن عباس ، فكان نافع يسأل عن معنى اللفظ القرآني ، وابن عباس يجيبه ، فيقول نافع : وهل تعلم العرب ذلك ؟ فيجيب : نعم ، ويسوق بيت الشعر.
ذلك الذي أصبح المنهج لدى المفسرين ، أن يُشرح اللفظ القرآني ، ويستشهد لعربيته بالشعر.
كان طبعيًّا أن يأخذ الشعر الجاهلي مكانة أسمى من ذي قبل ، وأن تكون له أهمية منوطة بتقديمه الدلائل على صحة اللسان العربي ، الذي نزل به القرآن الكريم، ولذا كان هو الآخر محطَّ اهتمام وعناية من علماء العربية ، غاضِّين الطرف عما قد يحتوي عليه من قيم اجتماعية لا تناسب الذوق المسلم ، وإنما غايتهم اللفظ والأسلوب .
وكما كان للغة رواة ، وكان للحديث رواة ، كان للشعر أيضا رواة نالوا الحظوة بامتلاك الوثائق اللغوية ( الشعر الجاهلي) .
وأنت ترى أن الرواية هي عمدة العلوم اللغوية ، عليها قام علم النحو ، وعلم اللغة ، وعلم الشعر.
والسؤال الآن : ما النموذج / المثال الذي جعله اللغويون حاكمًا للكلام؟
ما المرجع في قضية الصواب اللغوي ؟
هل الصواب والخطأ يرجعان إلى اللفظ ؟
اللغة : وسيلة هي أم غاية ؟
نواصل النقاش في الحلقة القادمة بمشيئة الله.
**********************************
(1) المزهر في علوم اللغة وأنواعها 1 / 58 للسيوطي ط دار الحرم للتراث.
([3] ) في كتابه مفتاح العلوم كان أبو يعقوب السكاكي ( ت 626 هـ ) يضع رؤية شاملة في علم الأدب ذلك الذي يقوم على تحليل النص اللغوي مستعينًا في ذلك بمجموعة العلوم اللغوية ، ومعها المنطق والاستدلال ، وجعل أول العلوم المطلوبة ( علم اللغة ).
( [4]) في كتابه ( تلخيص المفتاح ) يجعل الخطيب القزويني ( ت 739 هـ ) طالب البلاغة في حاجة إلى ثلاثة علوم تعد وسائل لعلم البلاغة ، هي : علم اللغة؛ ( للاحتراز عن الغرابة ) ، وعلم الصرف؛ (للاحتراز عن مخالفة القياس) ، وعلم النحو؛ ( للاحتراز عن التعقيد اللفظي ، وضعف التأليف ) .
( 3) كتب الشيخ الخضر حسين ( ت 1958م) بحثا بعنوان ( الاحتجاج بلفظ الحديث ) ، ونُشر في مجلة مجمع اللغة العربية ( الجزء الثالث ص 197 ) ، ونُشر أيضا في كتابه ( دراسات في العربية وتاريخها ) ، واستطاع الشيخ استصدار قرار من المجمع ، هو القرار الأول من (مجموعة القرارات العلمية في خمسين عاما ص 5) ، وقد رأى المجمع الاحتجاج ببعض الأحاديث في أحول خاصة .