حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الخطاب القصدي وآلياته التواصلية في أسلوب العطف (نموذج الإمتاع والمؤانسة) [الحلقة السادسة] بقلم أ.د/ حسين كتانة

أستاذ البلاغة العربية في جامعة آل البيت - الأردن

        ب- اتخاذه من خطاب العطف قصدا استدلاليا، وذلك لاعتماده على طلب الشاهد في ضبط المعاني. فموضوع معاني العطف يرتبط لغويا بمعاني حروفه(خصوصا حرف الواو) الذي يتميز بثراء استدلالي في استعماله والتداخل بين مستوياته، لذلك فإنه حقق في موضوع الإمتاع والمؤانسة سمة إيجابية للفعل الاستدلالي الحجاجي، الذي بواسطته تم التأثير على المستمع، وإقناعه في الأدوار الخطابية بما يدل عليه في الحجة من معنى مخصوص، كالاشتراك أو مطلق الجمع بين التركيبين. فيتعامل الخطاب القصدي للعطف مع المعنى في هذه الحروف على أنه استثمار لعلاقات متعددة تضم الملفوظ (Enoncé) مع ربطه بظروف المقال، وما يستتبع ذلك من تحديد لمجموعة من القرائن المعنوية المحددة لطبيعة الخطاب، أي الاهتمام بالمجال التداولي، وكذلك بموضوع الدلالة (Signification) الذي يرتبط بالجمل من حيث دراستها بلاغيا لتحديد صدقها وكذبها. ولا يخفى في هذا المجال، دور الجانب التداولي الذي يسعى إلى تحليل هذه الجمل، و عدم اختزال وصف قيمتها الإخبارية في وصفها الدلالي فقط، وإنما ليبرهن على الطريقة التي ستساهم فيها قرائن العلاقات بإعطاء اتجاه تداولي للجملة، وأيضا لفرض نتيجة على المخاطب عن طريق التحاور المتبادل في الكلام. فنجد صفة القصدية الموجهة للكلام تتحقق عندما يستهدف المتكلم النتيجة التي يسعى للتأثير على مخاطبه بغرضها  الذي أنجزه عن طريق التأويل، والقياس والنظر. ففي هذا المجال، تتدخل روابط الاستدلال الحجاجي التي تعتبر حروف المعاني نموذجا لها، لأن: “دورها الوظيفي هو توجيه الجمل الاستدلالية الحجاجية، وأيضا إدخال المبادئ العامة التي تجعل الحجاج ممكنا”[1].

وفي هذا السياق نجد الآلة الاستدلالية في الإمتاع والمؤانسة في موضوع العطف، تطلب الشاهد المنقول والمعقول الذي يفيد الحرف فيه معنى الاشتراك أوالقِران، وذلك في مواضيع متنوعة وفي سياقات لغوية مختلفة. ومما خصصه التوحيدي لهذه المناسبة، استشهاده بالعطف في الأحاديث النبوية والآثار من أقوال الصحابة، واعتبر ذلك وسيلة تأثيرية في حديث النساك ودرجة من درجات الإقناع، يقول :”..فقال :اجمع لي جزءا من رقائق العُبَّاد وكلامهم اللطيف الحلو، فإن مراميهم شريفة، وسرائرهم خالصة، ومواعظهم رادعة، وذاك-أظن- للدين الغالب عليهم، والتألُّه المؤثر فيهم؛ فالصدق مقرون بمنطقهم، والحق موصول بصدقهم، ولست أجد هذا المعنى في كلام الفلاسفة، وذاك -أظن أيضا- لخوضهم في حديث الطبائع والأفلاك والآثار وأحداث الزمان. قلت أفعل، فكتبت تمام ماتقدم به، ثم كتبت بعدُ ورقات في حديث النساك”[2].

        ففي الاستدلال بخطاب العطف فيما وصفه التوحيدي بحديث النساك، استعماله لمعنى الواو العاطفة يقترن بالمناسبات التي يقتضيها الخطاب، وتبعث على المؤانسة في إفادتها المعنى المطلوب، والتأثير المقصود. ومن وروائع العطف عنده في هذا المجال، استشهاده بأحاديث نبوية يرتبط فيها العطف بالاستثناء، وهو غرض من أغراض عطف المعاني التي يقصد من استعمالها تخصيص الظاهرة وتقريب صورتها من المستمع حتى تكون أكثر إمتاعا ومؤانسة. لذلك نجده أكثر توفيقا في استدرافه عيني الوزير ابن الفارض باستعماله منطق الاستدلال حينما أورد حديثا يقترن فيه العطف بالاستثناء، ثم أعقبه بآخر يعتمد مقدمتين ونتيجة، فجاءت صورته الاستدلالية مكتملة في نقل المعاني المعطوفة التي كانت أقرب صورة وأبلغ تأثيرا. يقول عن الحديث الأول:قال النبي (صلى الله عليه وسلم): “لايزداد الأمر إلا صعوبة، ولا الناس إلا اتباع هوى، حتى تقوم الساعة على شرار الخلق”. ثم أعقبه بحديث استدلالي آخر : “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء من أمتي”. فالنتيجة التي يسعى إليها التوحيدي في مؤانسته من خلال المعاني المعطوفة في الحديثين السابقين، هو بيان النتيجة التي قصدها الحديث وهي صفة المغترب أو الغريب التي يريد أن يؤنس بها.

 وقد  احتاج في بيان القصد من الخطاب، إسبال مزيد من المعاني المعطوفة، التي توضح صفته وتقرب صورته. ولذلك وضعه في صورة سؤال جدلي سأل التوحيدي من خلاله (ابن الجلاء الزاهد) بمكة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، بقوله: “ماصفة هذا الغريب؟ فأجاب في منتهى الإمتاع بقوله: “يا بني هو الذي يفر من مدينة إلى مدينة، ومن قُلّةٍ إلى قلّة، ومن بلد إلى بلد، ومن بر إلى بحر، ومن بحر إلى بر، حتى يسلَم، وأنى له السلامة مع هذه النيران التي قد طالت بالشرق و الغرب، وأتت على الحرث والنسل، فقدمت كل أفوه، وأسكتت كل ناطق، وحيرت كل لبيب، وأشرقت كل شارب، وأَمَرَّتْ كل طاعم؛ وإن الفكر في هذا الأمر لمختلس للعقل، وكارث للنفس، ومحرق للكبد.”[3]

 فكان لوقع هذه الصورة التقريبية التي نقلها التوحيدي في خطاب قصدي لمعاني عطفية متتالية أثر بالغ في نفس الوزير الذي بادره بعد الفراغ بقوله:”والله إنه لكذلك، وقد نال مني هذا الكلام وكبر عليَّ هذا الخطب والله المستعان”[4]. فلما دمعت عين الوزير ورق فؤاده استكملت الصورة الاستدلالية والبيانية جوانبها بالشاهد النبوي الثالث الذي جبر به خاطر الوزير في معاني معطوفة بقوله:  “روي عن النبي (ص) أنه قال: “حرِّمت النار على عين بكت من خشية الله، وحرِّمت النار على عين سهرت في سبيل الله، وحرمت النار على عين غضَّت عن محارم الله”.

===========================

[1]-MOECHLER, Argumentation et conversation, Eléments pour une analyse pragmatique du discours, Paris, Hatier, 1985, p 58.                                                                             

[2]-الإمتاع، 2/213.

[3]-نفسه، 2/212

[4]-نفسه، 2/212.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu