اللغة من أهم أدوات التواصل الاجتماعي بين البشر، ومن ثم فهي انعكاس ومرآة للمتكلمين بها، وتتأثر سلباً وإيجاباً بحالة المجتمع وظروفه السياسية والاقتصادية والثقافية، ومن هنا كان لاهتمام دوسوسير بعلم الاجتماع أثر في تكوين نظريته الثنائية؛ التي تتلخص في الجمع بين الشيء وما يقابله أو الجمع بين الشيء
ونقيضه، على نحو حديثه عن ثنائية ” الدال والمدلول” و” اللغة والكلام”
و” التزامنية والتاريخية” و” الداخلي والخارجي” و”الوصفي والمعياري” و” الحضور والغياب”.
ودو سوسير لا يتحدث عن لغة بعينها، وإنما يعني اللغة بصفة عامة، وهذه الثنائات بمثابة قوانين عامة تشترك فيها أيُ لغة مهما كانت بدائية أو حتى ميتة، وقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى هذه القوانين في تحليلاته، وإن لم يسمها بنفس مصطلحاتها، على ما سيأتي بيانه.
فما الدال والمدلول؟
أولا: ثنائية الدال والمدلول:
يطلق على الدال والمدلول (العلامة اللسانية) أو(العلامة اللغوية) ونعني بالدال في اللغة ” اللفظ” وبالمدلول ” المعنى”.
فاللفظ لا بد له من معنى يدل عليه، وصلنا هذا المعنى أم لم يصلنا، والمدلول اللغوى لا بد له من لفظ يعبر عنه ويدل عليه، فلفظ (رجل) مثلاُ دالٌ على كائن معين له صورة ذهنية وسمعية في عقولنا وأذهاننا، والرجل نفسه يعد مدلولاً عليه، ولا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر؛ لاستحالة أن توجد أسماء بدون مسمايتها، أو مسميات بدون أسمائها، ومن ثم فالعلامة اللغوية ذات طبيعة مركبة، يتألف الجزء الأول منها من الشكل، والجزء الثاني من المضمون، وبواسطة الشكل الذي هو: عبارة عن أصوات، والمضمون الذي هو عبار عن معنى تتكون عملية الدلالة، ومن ثم فلا قيمة للفكر بدون لغة تعبر عنه، ولا قيمة للغة بدون فكر تصدر عنه، وفي هذا الصدد يقول سوسير:” إنه من الخطأ أن نقول بأسبقية الفكر في إشكالية العلاقة القائمة بين الفكر واللغة، بل يجب اشتراكهما في عملية واحدة تكون شبيهة بالورقة وجهها الفكر وظهرها اللغة”([1]) وهذه الثنائية قد ألمح إليها عبد القاهر، وقد عنونت لها بـ” التعلق”، فقد نص عبد القاهر على الترابط الوثيق بين اللغة والفكر، غير أن عبد القاهر جعل الفكر سابقا اللغة؛ ودليله أن المقاصد والأغراض ما هي إلا معان ينشئها المتكلم في نفسه ويصرفها في فكرة قبل أن تخرج في صورة ألفاظ ؛ على نحو قوله:” اللفظ تبع للمعنى في النظم، وأن الكلم ترتب في النطق بسبب ترتب معانيها في النفس” ([2]) وقوله: ” وجملة الأمر أن ” الخبر ” وجميع الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنها مقاصد وأغراض ([3]).
فانظر كيف ربط العلامة اللغوية بالتعبير عن المقاصد والأغراض غير مكتف بشرح المفاهيم والتعريفات، بل جعل قضية الترابط الوثيق بين اللغة والفكر أمرًا مسلماً به؛ فلا يخطر ببال عاقل أو يهجس في ضميره أن تخلو الألفاظ من مدلولاتها؛ لأنَّها في رأي عبد القاهر لوخلت من مدلولاتها لكانت عبارة عن أصداء أصوات جوفاء، تقديم أحدها في النطق كتأخيره، فيقول:” ، وأنها لوخلت من معانيها حتى تتجرد أصواتاً وأصداء حروف، لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر أن يجب فيها ترتيب ونظم، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل”([4])
غير أنْ ما تُرجِع الدراساتُ الحديثةُ الفضلَ فيه لـ ” دو سوير” أنه تنبه إلى أن العلاقة بين الدال والمدلول ليست إلزامية؛ كالدخان الناتج عن النار، بل علاقة اعتباطية([5]) مع أنه مسبوق بهذا من عبد القاهر؛ فقد أشار عبد القاهر إلى هذا الأمر أثناء حديثه عن باب اللفظ والنظم، وكان أكثر وعياً وتصوراً لهذه المسألة من دوسوسير، وأن المتكلم يستطيع أن ينقل الدال من مدلوله إلى مدلول آخر من غير أن يغير في لفظه شيئاً قائلاً:” واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام، إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك؛ من أنك تستطيع أن تنقل الكلام من معناه عن صورة إلى صورة، من غير أن تغير من لفظه شيئاً، أو تحوِّل كلمة عن مكانها إلى مكان أخر، وهذا الذي وسع مجال التأويل والتفسير، حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر، ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير… مثال ذلك أنّ من نظر إلى قوله تعاالى:” (قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى)([6]) ثم لم يعلم أن ليس المعنى في” ادْعُواْ ” الدعاء، ولكن الذكر بالاسم، كقولك: ” هو يدعى زيداً ” و” ويدعى الأمير” وأن فى الكلام محذوفاً، وأن التقدير: قل ادعوه الله أو ادعوه الرحمن، أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى كان بعرض أن يقع فى الشرك، ([7])
فلا يعقل أن يكون لفظ ” الدعاء مراداً به العبادة المعروفة التي تكون بين العبد وربه، لأن أداة العطف ” أو” لا تكون إلا بين اثنين أو جماعة، وهذا يؤدي إلى الشرك وإنما يحمل ” الدعاء” في السياق على معنى آخر، وهو ” التسمية” فيكون المعنى: قل سموه الله أو سموه الرحمن أياما تسموا فله الأسماء الحسنى.
وما توصل إليه عبد القاهر يمنح اللغات الفقيرة أعداداً غير متناهية من المعاني، بما يخدم أغراض ومقاصد أصحابها، ويلبي احتياجاتهم؛ لأن التزايد غالباً ما يكون في المعاني، أو كما يقول هو:” وهذا الذي وسع مجال التأويل والتفسير، حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر، ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير…”
ويترتب على هذا أن اللفظ – عند عبد القاهر- قد يدل على أكثر من مدلول بحسب السياق وقرائن الأحوال، وهذا ما نوهت إليه اللسانيات الحديثة، كما يقول أحد الباحثين:” أما دلالة الإشارة اللغوية (الصوت) على المعنى(الصورة المرتسمة في الذهن) فهي عشوائية أو اعتباطية… أي أنه لا يوجد ارتباط مادي حقيقي، كالارتباط مثلاً بين الدخان والنار، وليس ثمة علاقة سببية بين الكلمة المنطوقة والمعنى الذي تدل عليه وترمز إليه، وإنَّما العلاقة بينهما نشأت بالمصادفة، لكنها تطورت مع الاستعمال المتكرر إلى شيء من الإلحاق، ودليل ذلك أن الكلمة الواحدة تطلق على أكثر من شيء، فالعين في العربية تطلق على عضو البصر لدى الإنسان، وعلى نبع الماء، والجاسوس، ودليل آخر وهو وجود أشياء لها أكثر من لفظ يدل عليها… ولو كانت ثمة علاقة مادية أو سببية بين الإشارة اللغوية ومعناها لوجب أن تسمى الأشياء المشتركة في اللغات باسم واحد، فالشجرة في العربية لا تسمى شجرة بالإنجليزية بل تسمىtree وفي الفرنسية arbre وهكذا، مما يؤكد أن الأصوات التي تتألف منها هذه الإشارة لا صلة لها بالمعنى وهو الشجرة”([8])
وإذا كانت هذه الثنائية شغلت حيزاً من فكر عبد القاهر اللغوي، فمما يحسب لسوسير أنه جعلها من أولويات بحثه، ونظر إليهاعلى أنها علم برأسه يسمى ” علم السيمولوجيا ” مأخوذة من السمة وهي العلامة، يقول أحد الباحثين:” علم اللغة عند سوسير هو جزء من علم أوسع وأشمل؛ هو علم ” السيمولوجيا” ومن هنا فقد كانت علاقة الدال بالمدلول علاقة رمزية ” ([9]) وهو ما جعل جل الدراسات اللغوية الحديثة قائمة الآن على الدلالة وتنوع مفهومها ومجالاتها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والحالية والاجتماعية.
يتبع…
=============================
([1]) اللسانيات (اتجاهاتها وقضاياها الراهنة) ص74 بتصرف.
([5]) تراجع هذه المسألة في كتاب” اللسانيات اتجاهاتها وقضاياها الراهنة ص72، وكتاب ” نظرية السياق بين القدماء والمحدثين دراسة لغوية نحوية دلالية” دكتور- عبد المنعم خليل – دار الوفاء الاسكندرية ـ ط الأولى – 2007 ص264، 265. وكتاب ” اللسانيات ونحو النص ص19، 20