Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

مصر في الشعر الجاهلي بقلم أ.د/ صبري فوزي أبو حسين

لا ريب في أن مصرنا- حفظها الله- حاضرة- مكانًا وإنسانًا، ومجتمعًا وتاريخًا- منذ كانت الحضارات والثقافات ومنذ كانت الكتابة وكان التدوين، وقد شرفت بحضورها في الخطاب القرآني الكريم، وفي الخطاب النبوي الشريف، منذ فجر الإسلام، وظل هذا الحضور في الخطاب الإسلامي عبر الأعصار والأجيال التي مرت -وتمر بها- أمتنا، حفظها الله تعالى! كما حضرت (مصر) في مدونات الأدب العربي: قديمه ووسيطه وحديثه ومعاصره، حضورًا متنوعًا بين مصر اللفظ، ومصر المضمون: جغرافيًّا وتاريخيًّا واجتماعيًّا، و مصر المبدعة، وهو حضور بارز فاعل مثير دالٌّ، وما أصدق قول الشاعر!

ولمْ أرَ مِصْرًا مثلَ مِصْرَ تروقُني         ولا مثلَ ما فيها من العَيْش والخَفْضِ!

نعم: حضرت مصر لفظةً، وحضرت مصر مضمونًا، وحضرت مصر مبدعة في الأدب العربي، وأقف في هذا البحث على أدلة حضورها لفظيًّا في الشعر الجاهلي، كما في قول سلامة بن جندل(ت600م) يصف سحابة جاءت من نحو مصر:

                           ومَجَرُّ ســــــــارِيةٍ تَجُرُّ ذُيولَها         نوسَ النعامِ، تناطُ بالأعناقِ

      مِصرِيَّةٍ، نَكباءَ أعرَضَ شَيمُها        بأشابةٍ، فـــــزرودَ، فالأفلاقِ([1])

فوصف السحابة بالمصرية دال على أن مصر كانت معروفة جغرافيًّا لدى العرب!

وينتقل الأعشى(ت7هـ) بالخطاب إلى نيل مصر الخالد، في قوله يمدح إياس بن قبيصة الطائي- أحد أشراف ووجهاء طيء، وأشهر فصحائها وشجعانها في الجاهلية وأحد الملوك المناذرة- موازنًا بينه وبين نيلنا في العطاء:

                      فما نيلُ مصرٍ إذْ تسامى عبابُهُ          ولا بحـــرُ بانقيا إذا راحَ مفعما

         بأجودَ منه نائلاً إنَّ بعضَهم            إذا سُئل المعروفَ صدَّ وجمجما ([2])

ويأتي النيل مشبهًا به في خطاب شعري قصصي للشاعر الجاهلي أعشى باهلة([3])، إذ يروي الرواة أنه نزل رجل من العرب بامرأة من باهلة، وليس عندها زوجها، فأكرمته وفرشته، فلما لم ير عندها أحداً سامها نفسها، فلما خشيته قالت له: امكث، أستصلح لك، ثم راحت فأخذت مديةً، فأخفتها ثم أقبلت إليه، فلما رآها ثار إليها فضربت بها في نحره، فلما رأت الدم سقطت مغشياً عليها، وسقط هو ميتا، فأتاها آتٍ من أهلها فوجدها على تلك الحال، فأجلسها حتى أفاقت، فقال أعشى باهلة في ذلك:

لَــعَــمــرِي لَقــد حَــفّــتْ معَــاذَةُ ضَيفَها    وَسَوّتْ عَلَيْهِ مَهْدَهُ ثمّ بَرّتِ

فَلَمّا بَغَاهَا نَفسَهَا غَضِبَتْ لهَا     عرُوقٌ نمَتْ وَسطَ الثرَى فاستَقرّتِ

وَشدّتْ على ذي مديَةِ الكَفّ مِعصَمًا  وَضِيئاً وَعَرّتُ نَفسَها فاستَمَرّتِ

فأمّتْ بها في نحرِه وَهــوَ يَــبــتَغي الـ  ــنّكَاحَ فَمَرّتْ في حَشَاهُ وَجَرّتِ

فَشُجَّ كـــأنّ النــيــلَ في جَــوْفِ صَدْرِهِ،   وَأدْرَكَهَا ضُعْفُ النّسَاءِ فخَرّتِ([4])

وبيِّنٌ من هذه الخطابات الشعرية الجاهلية الثلاثة أن مصر ونيلها حاضران في العقلية العربية الأولى حضورًا مميزًا، وأن مصر مرادفة للرقي والتحضر والتمدن، وأن نيل مصر رمز لكل عطاء وخير وفيض وكثرة!

ويظهر الحضور المصري في خطاب شعري منتحل منسوب إلى الشاعر اليهودي السموأل بن غريض(ت650م)، حين يفخر بسيدنا إبراهيم وسيدنا يوسف، ويوظف تاريخهما بمصرنا، قائلاً:

ألا اِسمَع لِفَخرٍ يَترُكُ القَلبَ مولِهًا          وَيُنشِبُ نارًا في الضُلوعِ الدَواخِلِ

 فَأُحصي مَزايا سادَةٍ بِشَواهِدٍ               قَدِ اِخــتـــارَهُم رَحـــمانُهُم لِلـــدَلائِلِ

 قَدِ اِختارَهُم عُــقــمًا عَــواقِــرَ لِلوَرى            وَمــِن ثَـــمَّ وَلّاهُم ســَنامَ القَبائِلِ

 مِنَ النارِ وَالقُربانِ وَالمِحَنِ الَّتي               لَها اِستَسلَموا حُبَّ العُلى المُتَكامِ

فَهَذا خَليلٌ صَيَّرَ الناسَ حَولَهُ                      رَياحينَ جَنّاتِ الغُصونِ الذَوابِلِ

وَمِن نَسلِهِ السامي أَبو الفَضلِ يوسُفُ الـ    ـــلَذي أَشبَعَ الأَسباطَ قَمحَ السَنابِلِ

وَصارَ بِمِــصـــرٍ بَعــدَ فِرعَونَ أَمرُهُ          بِتَعبــيــرِ أَحلامٍ لِحَــلِّ المَشــاكِـــلِ

أَلَسنا بــَني مِصــرَ المُنَكَّــلَةِ الَّتي              لَنا ضُرِبَت مِصرٌ بِعَشرِ مَناكِلِ([5])

واستمر الحضور المصري لفظيًّا في الخطاب الشعري في صدر الإسلام والعصر الأموي، عند سيدنا معاوية، وسيدنا عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، وعند كبار الشعراء الأمويين، أمثال الأخطل، وجرير، وكثير عزة، والطرماح. ومن نماذج ذلك الحضور قول عتبة بن أبي سفيان مخاطبًا سيدنا معاوية-رضي الله عنه- وطالبًا إمارة مصر لسيدنا عمرو بن العاص-رضي الله عنه-:

أيها المانع سيفا لم يهز          إنما ملت على خز وقَزّْ

أعطه مصرًا وزده مثلَها           إنما مصرُ لمَنْ عَزَّ وبَزّْ

واترك الحرص عليها ضلَّةً         واشبب النار لمقرور يكزّْ

  إنَّ مصرًا لعَلِيٍّ أو لنا            يُغلَبُ اليومَ عليها مَن عجزْ([6])

ومن أجمل نماذج هذا الحضور ما أنشده الرواة والمؤرخون لكعب بن مشهور المخبلي من جليحة خثعم(حجازي إسلامي)، صاحب میلاء، وتغرب بمصر فاشتاق، فقال: 

     نــظـــرتُ ومــن مــصـر قــصــورٌ كأنــهــا    إذا غُـــلِّـــقَــــــت دُونــي أنُــوفُ رِعــانِ

     بـمـقـلـة بـازٍ أشـكــل الـرِّيـس واقــعٍ       عَـــشِـــيَّةَ ســـاري رَهــــمــةٍ ودِجَـــــانِ

     إلى ضـوء نـارٍ بـالحـبونن والصفا     تُــشَــبُّ ودونــي مــن هُــلُولِ مِــتــانِ([7])

وقول مجنون ليلى متغزلاً:

يقولون: ليلى بالعراق مريضة      فأقبلت من مصر إليها أعودها

 فو الله ما أدري إذا أنا جــئــتها        أَأُبْــرِئُهَــا مِــنْ دَائِهَـــا أمْ أزِيـــدُهَــا([8])

و يأتي نهر النيل دالاًّ على الجود والعطاء في قول الطرماح(125هـ) مادحًا:

ومَا نِيلُ مِصْرَ قُبَيْلَ الشَّفَى        إذا نفحَتْ ريحُهُ النَّافحَةْ

وراح تأجج أمواجه              وتطفح أثباجه الطافحةْ

بَأَجْودَ مِنْكَ، ولاَ مُدْجِنٌ            تدلت غياطله الدالحةْ([9])

وهكذا ظل الحضور لمصرنا ونهرها العظيم لفظيًّا في أشعار القدماء من الجاهليين والإسلاميين حتى عهد بشار(ت186هـ)، ودعبل بن علي الخزاعي(ت222هـ)، وأبي تمام(ت231هـ) وابن الرومي(ت283هـ)… وغيرهم من أوائل الشعراء العباسيين، ثم صار الحضور المصري في الشعر العباسي حضورًا كليًّا بدءًا بأبي نواس(ت198هـ)، ثم المتنبي(ت354هـ)، ثم أبي العلاء المعري(ت449هـ)، ثم ابن سناء الملك(ت608هـ)، وختامًا بالبهاء زهير(ت656هـ)، ثم كان هذا الحضور أكثر تفصيلا وتأثيرًا عند شعراء عصر الدول والإمارات المتتابعة، فكان حضور مصر عند كبار الشعراء حينئذ متنوعًا لفظًا ومعنًى، وانتقل من دلالة اللفظ المنطوق، إلى دلالة المعاني المفهومة، ثم إلى الدلالة الكلية (مصر مضمونًا، ومصر فكرة، مصر موقفًا، مصر رمزًا)…. وهذا ما سأخصه ببحث مستقل، إن شاء الله.

=================================

[1])) ديوان سلامة بن جندل ص18، المطبعة الكاثوليكية سنة 1920م، ونسخة بتحقيق د/فخر الدين قباوة، طبع المكتبة العربية بحلب سنة 1968م. سارية: سحابة تأتي ليلا، والجمع سوار، وغادية: تأتي بالغداة، ورائحة تأتي عشيًّا، ذيولها: مآخيرها، قال: يكون للسحابة المرتفعة أخرى دونها فذلك ذيلها، والنوط: التعليق، وتناط: تعلق. وقال السحابة: تشبه بالنعام، والمنوط: المعلق في استرخاء، ومصرية نعت للسارية، ونكباء: منحرفة وقعت بين الدبور والشمال، وأعرض شيمها: تمكن مطرها عرض أشابة فزرود فالأفلاق، أي هطل غزيرًا حتى تمكن من تربتها.

[2])) ديوان الأعشى ص346-347، تح د/محمد محمد حسين، طبع مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1983م. وبانقيا ناحية من نواحي الكوفة، كانت على شاطئ الفرات فالمقصود به نهر الفرات.

[3])) شاعر جاهلي من أبناء القرن السادس الميلادي، وهو أبو قحفان عامر بن الحَرث بن رياح بن أبي خالد بن ربيعة بن زيد بن عمرو بن سلامة بن ثعلبة بن وائل بن معن. شاعر جاهلي مجيد ، لم ينسبه أبو عبد الله المرزباني. وهو أحد بني عامر بن عوف بن وائل بن معن ، ومعن أبو باهلة ، وباهلة امرأة من همدان. معجم الشعراء من العصر الجاهلي حتى العصر الأموي، د/عفيف عبدالرحمن، ص22، 142، 211. طبع دار المناهل سنة 1996م.

[4])) مصارع العشاق لجعفر البغدادي(ت500هـ) 1/69، دار القلم، بيروت، لبنان سنة 2020م. حفت: أحاطت بالكرم. معاذة: اسم امرأة. برت: أطاعت. بغاها نفسها: أراد روادها عن نفسها. العروق: الأصل الكريم. استقرت: ثبتت. ذي مدية الكف: السكين الذي يمسك باليد. استمرت: ثبتت على حالة واحدة. أمت: قصدت. جرت: جذبت، يريد أنها طعنته في نحره وأخرجت السكين منه. ثج: تدفق بالدم. خرت: سقطت مغشيًّا عليها.

[5])) ديوان السموأل ص30، من القصيدة التي مطلعها:

أَلا أَيُّها الضَيفُ الَّذي عابَ سادَتي  أَلا اِسمَع جَوابي لَستُ عَنكَ بِغافِلِ

والمنكلة: من نكل بخصمه: أصابه بنازلة تكون عبرة لغيره، ونكل الله بأصحاب الفيل، والناكل: محتل يهوى النكول بالأسرى. ومصر المنكلة أي التي ضُرِبت بالأعداء، أو ضربتهم، وعشر مناكل: عشرة أعداء، أو عشر حروب!

[6])) وقعة صفين لابن مزاحم تح/عبدالسلام هارون، طبع المؤسسة العربية الحديثة1382.

[7])) مصارع العشاق لجعفر البغدادي ت5001/81، طبع دار صادر بيروت.

[8])) ديوانه ص87،  شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 3/417.

[9])) ديوان الطرماح ص 87، والبيت الأول في اللسان والتهذيب وتاج العروس (ش/ف/ى). وقبيل الشفى: قبيل غروب الشمس، تأجج: تتلاطم وتهدر، وأثباجه: واحدها ثبج وهو معظم ماء البحر وموضع كثرته، والغياطل: السحائب المتراكمة، واحدها غيطلة. و(الدالحة) من السحاب: المثقلة بالماء.