Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

بين اللسانيات الحديثة…وعبد القاهر الجرجاني [ثنائية اللغة والكلام] (3) بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب

قلنا إن اللغة ظاهرة إنسانية عامة يتواصل الناس من خلالها، وبالتالي فهي: مجموعة من الرموز والإشارات مستقرة في الذهن، يلجأ إليها المتكلم للتعبير عن مقصده وأغراضه، ومن ثم فهي نتاج فردي، والكلام: هو النشاط الذي يقوم به الإنسان، فهو نشاط اجتماعي، وقد فرق سوسير بين اللغة والكلام من حيث” اشتمال دراسة اللغة على ناحيتين: إحداهما: جوهرية موضوعها اللغة المعنية التي هي اجتماعية في جوهرها ومستقلة عن الفرد وهذه الناحية نفسية فحسب، أما الأخرى: فتتناول الدور الفردي للغة باعتباره موضوعاً لها، أو بعبارة أخرى: الكلام المكوَّن من أصوات، وهذه نفسية وعضوية معاً… ويشبه دو سوسير اللغة بالقاموس الذي توجد فيه الكلمات صامته غير منطوقة صالحة للنطق والاستعمال، وإنما تستخرج منه فرادى بحسب الحاجة إليها أو بحسب الاختيار” ([1]).

إذا فاللغة تعد ظاهرة اجتماعية؛ إذا قصد بها مجموع الدوال المختزنة في الذهن، فإذا أخرجنا هذه الدوال وترجمناها في تعاملاتنا أضحت اللغة كلاماً ونشاطاً فردياً، ويترتب على ذلك أمور مهمة؛ ” منها: أن دراسة اللغة غير دراسة الكلام، وموضوع علم اللسانيات: هو اللغة، وليس الكلام، ومنها: أن اللغة أقرب إلى الشكل، والكلام أقرب إلى التطبيق، من خلال أصواته ودلالات كلماته، ويستوعب ما هو عارض ومتغير بدرجة أكبر مما تستوعبه اللغة، وهو ذو طبيعة تستجيب لأي قياس؛ لأنه عرضي جوهري، ومتغير متنوع غير ثابت، وفردي غير اجتماعي([2]).

 أما موقف عبد القاهر من التفرقة بين اللغة والكلام فواضح من خلال حديثه عن النظم:” واعلم أنا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه، فتستند إلى اللغة، ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن يصنع فيها؛ فليس الفضل للعلم بأنَّ ” الواو” للجمع، و” الفاء” للتعقيب بغير تراخ و” ثم ” له بشرط التراخي، و” إن” لكذا و” إذا” لكذا، ولكن لأن يتأتى لك إذا نظمت شعراً وألفت رسالة أن تحسن التخير، وأن تعرف لكل من ذلك موضعه” ([3]).

وكلامه هذا يتفق فيه مع المفاهيم التي ذكرها سوسير؛ فهو يقول: إن العبرة ليست بمعرفة المعاني المعجمية للغة – التي شبهها سوسير بالقاموس – من أن ” الواو” للجمع ” والفاء للتعقيب بغير تراخ، و” ثم” للتعقيب مع تراخ، وغير ذلك من المعاني المعجمية التي تستند إلى اللغة، التي يشترك فيها الجميع، وإنما العبرة بكيفية استخدام هذه الفروق والوجوه، وهو ما أشار إليه سوسير بالنشاط الكلامي، فمن خلاله تظهر القدرات وتتفاوت الملكات.

وأكد عبد القاهر على أن اللغة التي هي نشاط اجتماعي ويشترك فيه أبناء اللغة الواحدة لا تميز أحد أبنائها على الآخر؛ إذ هي ألفاظ صامتة صماء، وإنما يظهر التفاضل من خلال الكلام، وتفنن المتكلم في التعبير عن مقاصده وأغراضة، فنراه يقول:” ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الاطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض”([4]).

وقد ساعد على هذا التلاقي بين عبد القاهر وسوسير ما قامت عليه فكرة النظم، فقد قامت على ثنائية اللفظ والمعنى، فعبد القاهر يرى أن المزية ليست في اللفظ وحده كما ادعى بعض العلماء، وليست كذلك في المعنى كما توهم بعضهم أيضاً، وإنما يرى أن المزية في حسن الدلالة وتمام المعنى، وهذا يتحقق بأن يكون اللفظ أقرب إلى الذهن من معناه إلى القلب، وأن المعنى الحسن من حقه أن يُدلَ عليه بلفظ حسن، وأن الألفاظ المفردة لا تفاضل بينها، بل هى نشاط اجتماعي يشترك فيها جميع الناس، وواضع اللغة لم يميِّز أحداً عن الآخر، وإنما يظهر التفاضل من خلال الضم والتأليف , وفى تعلق الكلام بعضه ببعض وجعل بعضه بسبب من بعض ولا يكون ذلك فى اللفظة المفردة وإنّما فى نظم الكلام بعضه مع بعض، فنراه يقول:” فقد اتضح إذن اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هى ألفاظ مجردة، ولا من حيث هى كلم مفردة، وأن الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التى تليها، وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ”([5]) ويقول فى موضع آخر:” واعلم أنَّك إذا رجعت إلى نفسك علمت علماً لا يعترضه الشك أن لا نظم فى الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك ” ([6]).

===================

([1]) نقلاً عن الدكتور تمام حسان في كتابه مناهج البحث في اللغة ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ 1990 ص31، ص32 بتصرف يسير، وتراجع هذه القضية في كتاب علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي ـ دكتور/ عبد الجليل منصور- دار الكتاب الحديث ـ 2011م/1432هـ، ص48. وكتاب نظرية السياق بين القدماء والمحدثين ص263، 264. وكتاب اللسانيات اتجاهاتها وقضاياها الراهنة ص73. وكتاب اللسانيات ونحو النص ص17

([2]) ينظراللسانيات ونحو النص ص17 بتصرف.

([3]) دلائل الإعجاز ص249، 250.

([4]) دلائل الإعجاز ص87..

([5]) دلائل الإعجاز صـ 46

([6]) الدلائل صـ 55