حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

على هامش شرح (الخصائص) [2]: مصطلح (أصحابنا) عند الإمام بين تشعب مفاهيمه وإيحاءاته النفسية.. بقلم أ.د/ عصام فاروق

أستاذ أصول اللغة ووكيل كلية العلوم الإسلامية الأزهرية للطلاب الوافدين

 مصطلح (أصحابنا) عند الإمام ابن جني
بين تشعب مفاهيمه وإيحاءاته النفسية
أكثرَ الإمام ابن جني من ذكر مصطلح (أصحابنا) عبر صفحات كتابه إكثارًا لفت انتباهي لدلالات هذا المصطلح، تلك الدلالات التي لا تقف على النوع اللغوي فحسب، وإنما – أيضا-الدلالات النفسية الكامنة وراء استعمال هذا المصطلح، وحاولت استقراء المواضع التي ورد فيها ذلك المصطلح في كتاب (الخصائص) موضحًا هل يقصد بها البصريين؟ وهو البادي على أغلب مواضع وروده،أم أن هناك مواضعَ لم يقصد بهذا ذلك المفهوم الضيق للمصطلح؟ وما الدليل؟
من اللافت قبل استقراء تلك المواضع التي بلغت بضعا وأربعين، أن استخدام الإمام اصطلاح (أصحابنا) لم يقتصر على (الخصائص) فحسب، وإنما نجده في مواضع عديدة من كتبه، ففي (المنصف) منها عددٌ، وكذلك في (سر صناعة الإعراب)، بدءًا بأول موضع في مقدمة الكتاب، وكذا في (المبهج)؛ مما يدل على أن هذا المصطلح ملازم لأسلوب الإمام كما أن تكرارَه اللافتَ دالٌ على قصديته.
فإذا انطلقنا نستقرئ مواضع ذكره في (الخصائص) ألفينا أنفسنا أمام عدة مفاهيم يدل عليها ذلك المصطلح:
المفهوم الأول- وهو الأكثر ورودًا أن يقصد بأصحابنا: البصريين، ولعل هذا المواضع وغيرها كانت متكأ لمن قال بأن الإمام بصري المذهب، كمحقق الخصائص، وصاحب كتاب ابن جني النحوي، وغيرهما.
ومن أكثر المواضع التي يتضح من خلالها ذلك المفهوم – وسأكتفي به هنا- قوله (في باب في الاحتجاج بقول المخالِف): (( .. وذلك كإنكار أبي العباس جوازَ تقديم خبر (ليس) عليها، فأحدُ ما يحتج به عليه أن يقال له: إجازةُ هذا مذهبُ سيبويه وأبي الحسن وكافة أصحابنا، والكوفيون أيضا معنا.)) [الخصائص 1/ 188]
ففي قوله: (وكافة أصحابنا) وتلوها بقوله: (والكوفيون أيضا معنا) ما يدل دلالة قاطعة على إرادة هذا المفهوم.
المفهوم الثاني- أطلق هذا المصطلح وأراد به القائلين بالتوقيف في أصل اللغة، ومن المعروف أن القول بالتوقيف لم يكن وقفا على البصريين ولا غيرهم، حتى نضم هذه المواضع إلى دلالة المفهوم الأول.
ففي الباب السادس (باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح؟) ذكر هذا المصطلح مرتين في إرادة الدلالة على المفهوم السابق، وذلك في قوله متحدثا عن التوقيف: ((.. فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا- رحمهم الله- ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما وفقوا لتقديمه منه.. )) الخصائص (1/47)
وكذلك قوله فيهم: ((.. ثم أقول في ضد هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا- وإن بعد مداه عنا- من كان ألطف منا أذهانا، وأسرع خواطر وأجرأ جنانا.)) الخصائص (1/47)
المفهوم الثالث- أطلق هذا المصطلح وأراد مطلق النحويين، ويتضح ذلك من خلال الموضع الذي قد لا يختلف فيه الكوفيون عن البصريين من جانب، أو أن يذكر ذلك في علل النحويين مقابل علل غيرهم من أصحاب المجالات المعرفية الأخرى، ومن ذلك ما وجدناه في بداية الباب الرابع عشر (باب في تخصيص العلة)، حيث يقول: ((اعلم أن محصول مذهب أصحابنا ومتصرَّف أقوالهم مبني على جواز تخصيص العلل. وذلك أنها وإن تقدمت علل الفقه فإنها أو أكثرها إنما تجري مجرى التخفيف والفرق… فقد ثبت بذلك تأخر علل النحويين عن علل المتكلمين، وإن تقدمت علل المتفقهين. ثم اعلم من بعد هذا أن علل النحويين على ضربين…)) الخصائص (1/144، 145)
فمن الواضح من خلال هذا النص أنه يقصد بأصحابه هنا النحويين بوجه عام، في مقابل الفقهاء والمتكلمين، ذلك أن تخصيص العلة لا يمكن قصره على البصريين فقط، ولذا وضع علل النحويين في العبارة الأخيرة في مقابل علل غيرهم، وكذلك بدأ الحديث عن ضربي علل النحويين بوجه عام.
المفهوم الرابع- قصد به في موضع واحد أتباع أبي حنيفة، وذلك عند حديثه عن الاحتياط في وصف العلة، وأن ذلك مبثوث في كتب النحويين، دون جمع له كما أراد أن يؤصل هو، وأن هذا التفرق لا يدعو إلى القول بعدم احتياطهم في وصف العلة، لكن الفرق بين عملهم وعمله، هو أنه جمع كل ما يحتاط به للعلة، ويستشهد على ذلك بالعلل المبثوثة في كتب محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة، التي جمعها الحنفية واحتاطوا بها للعلة الفقهية، وذلك في قوله: (( وكذلك كتب محمد بن الحسن – رحمه الله- إنما ينتزع أصحابنا منها العلل، لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه، فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرفق. ولا تجد له علة في شيء من كلامه مستوفاة محررة. وهذا معروف من هذا الحديث عند الجماعة غير منكور)) [الخصائص 1/163]
وواضح من خلال سياق الكلام أنه يقصد بأصحابه هنا أتباع أبي حنيفة، وقد ذكر الشيخ النجار ذلك في تفسيره معنى (أصحابنا) هذا، ويؤكد ذلك عنده وعندي أن الإمام حنفي المذهب.
فإذا ما انتقلنا إلى محاولة استكناه الجانب النفسي الكامن وراء إطلاق هذا المصطلح، فأراه ينبثق من عدة عوامل من أهمها في نظري: أن الإمام نشأ في بيئة عربية تقدِّر للنسب قدره، وتعطي لأنسابها، بل لأنساب خيولها نوعًا من الأهمية والعناية، للدرجة التي تصير فيها الأنساب عِلْمًا، له رجاله ومصنفاته. في وسط هذا كله يجد الإمام – غير العربي- نفسه وحيدًا، من هذا المنظور، لكنه يقوي نفسيته، وينقل بؤرة هذا النسب بدلا من أن تكون لتعداد الرجال إلى تعدد مجالات العلم والمعرفة، فعلمه هو نسبه وأهله بمثابه عمق لهذا النسب، وكتبه بمثابة امتداد لهذا النسب، فيقول شعرا:
فإن أصبح بلا نسب :: فعلمي في الورى نسبي
وبذلك يصير أهل العلم خاصته وصحبه وسنده في الحياة، فينتسب إليهم، وينسبهم إلى نفسه، ويفتخر بذلك مرددا (أصحابنا)، وهكذا وجدنا هذا الإباء، وذاك الشمم باستخدام (نا) في تعبيره عن كتبه قائلا في مواضع عديدة: أوردته في (كتابنا)، بل إنه لا يقصر ذلك النسب البديل على أهل العلم من أسلافه العلماء ومعاصريه المجتهدين فحسب، بل يتجاوزه إلى طلاب العلم الذي يدرسون على يده، فيأنس بهم، ويعبر عن ذلك في مقدمته قائلا: (ثُمَّ إنَّ بَعضَ مَن يَعْتادُنِي، ويُلِمَّ لِقراءةِ هَذا العِلْم بِي مِمَّن آنَسُ بِصُحْبَتِه لِي وَأَرتَضِي حَالَ أَخذِه عَنِّي)
وانظر إلى ذلك الأنس وتلك الصحبة، فليسوا تلاميذ علم ولا طالبي إجازة وإنما خاصته التي يأتمنها على أفكار كتابه فيلح بعضهم عليه إلحاحا كانت نتيجته ذاك الكتاب الذي بين أيدينا.
ويمكن إضافة عامل نفسي آخر – ثانوي بجانبه- يتمثل في اعتزاز الإمام بنفسه، وفخاره بما حباه الله من عقلية علمية جبارة، وذلك أنه كثيرا ما كان يذكر هذا المصطلح في معرض الحديث عن موضع وصل إليه دون أقرانه، أو باب افتض بكارته بما لم يحدث لأحد سواه ، وهو بذلك يؤكد على فضله وسبقه أصحابَ الصناعة من قرنائه بل وأسلافه، فحتى وإن بدوا جميعا أصحاب علم وفضل إلا أن له منزلة وظهورا علميا من بينهم.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu