Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

الخطاب القصدي وآلياته التواصلية في أسلوب العطف (نموذج الإمتاع والمؤانسة) [الحلقة الثالثة] بقلم أ.د/ حسين كتانة

ثانيا: الخطاب القصدي ومعاني العطف

استعان البلاغيون بالخطاب القصدي لعطف المعاني في عدة مناسبات قصد الإقناع والإفادة، فاستعملوه في عدد من القضايا منها:

1-  بيان الحد أو المفهوم بطريقة بليغة وصياغة لغوية محبوكة تعتمد المعنى في عطف أجزاء الكلام قبل تركيبه. ويظهر هذا الجانب في موضوع الإمتاع والمؤانسة عند التوحيدي، في عدد من التعريفات التي وعاها وحفظها من أستاذه ثم جاءت مسبوكة بانسجام في مسامراته كأن يقول:”الدليل ما سلكك إلى المطلوب، والحجة ما وثقك من نفسه، والبرهان ما أحدث اليقين، والبيان ما انكشف به المتلبس، والقياس ما أعارك شبهه من غيره في نفسه، والعلة ما اقتضى أبدا حكمها باللزوم، والحكم ما أوجب بالعلة”[1]

  يروم التوحيدي في تحديداته العطفية الخطاب القصدي الذي يميز المفهوم الدقيق للكلمة. لذلك مثلا نراه يقف على الحقيقة بجميع أجزائها،فيقول: “وأن الحقيقة إذا عرفت بجميع أجزائها، سمي حدا تاما، وهو أتم التعريفات. وإذا عرفت ببعض أجزائها سمي حدا ناقصا، وإذا عرفت بلوازمها سمي رسما ناقصا، وإذا عرفت بما يتركب من أجزاء ولوازم سمي رسما تاما”[2]. ومن أمثلة ما أورده في هذا المجال؛ تحديده أنواع البلاغة بقوله: “فأما بلاغة الشعر فأن يكون نحوه مقبولا، والمعنى من كل شيء مكشوفا، واللفظ من الغريب بريئا، والكناية لطيفة، والتصريح احتجاجا، والمؤاخاة موجودة، والمواءمة ظاهرة.”[3] وهو تحديد تظهر فيه الخصوصيات التامة لمعاني العطف التي تعتمد على الجمع بين المفاهيم المتواردة والسياقات المناسبة. وقد ذكر منها في هذا التعريف: (النحو، والمعنى، واللفظ، والكناية، والتصريح، والمواءمة). وفي الأطراف المتتالية من المعاني المضمَّنة في أجزاء العطف، نلحظ أحوالا تمييزية  للمعطوفات تكاد تؤلف فضاء اصطلاحيا متدرجا في الوضوح من أجل ضبط البيان، وهي: (القبول، والكشف، والبراءة، واللطافة، والاحتجاج، والوجود، والظهور). وهذا النمط من الترتيب في إدراج معاني العطف في التحديدات والتعريفات يميز به التوحيدي في خطاب القصد بين أمرين :

ويظهر ذلك في المثال السابق من خلال تمييزه بين حدود ومفاهيم الأجناس البلاغية الأخرى التي ميز مفاهيمها بواسطة معاني العطف  فذكر:بلاغة الخطابة، وبلاغة النثر، وبلاغة المثل، وبلاغة العقل، وبلاغة البديهة، وبلاغة التأويل، وهي تقسيمات تُظهر ضوابط البيان عند التوحيدي في رسمه لحدود ومفاهيم الأسامي معتمدا في عطف معانيها خاصية من خصائص البحث الأسلوبي وهي “الاختيار” و”الانتقاء” أو ماعبر عنه أبوهلال العسكري ب”حسن الرصف وإضافة اللفق”؛ وهو اعتماد يتجه فيه  هَم المحدِّد أو المصطلِح في القضية المثارة إلى البحث عن الدلالات المتعلقة بأسباب اختيار جملة بدلا من جملة أخرى، وتفضيل تركيب على آخر، حتى وكأن القارئ ليجد كلاما يشتبه أوله بآخره وتكون الكلمة منه موضوعة مع أختها ومقرونة بلفقها[4]. فالملامح المميزة لعطف المعاني لمفهوم البلاغة تظهر عند التوحيدي في إدراك المعاني المحددة لأقسامها، مع تتبع سائر الأوجه الذهنية المحتملة للمعنى، التي تعطي اللفظ قوامه في إطار التحديد والتعريف. ونلمس تطبيقات الملامح المميزة لمفهوم البلاغة في التحديدات الآتية:

– بلاغة الخطابة: أن يكون اللفظ قريبا، والإشارة فيها غالبة، والسجع عليها مستوليا، والوهم في أضعافها سابحا، وتكون فقرها قصارا، ويكون ركابها شوارد إبل.

-بلاغة النثر: أن يكون اللفظ متناولا، والمعنى مشهورا، والتهذيب مستعملا، والتأليف سهلا، والمراد سليما، والرونق عاليا، والحواشي رقيقة، والصفائح مصقولة، والأمثلة خفيفة المآخذ، والهوادي متَّصلة، والأعجاز مفصَّلة.

-بلاغة المثل : أن يكون اللفظ مقتضبا، والحذف محتملا، والصورة محفوظة، والمرمى لطيفا، والتلويح كافيا، والإشارة مغنية، والعبارة سائرة.

– بلاغة العقل: فأن يكون نصيب المفهوم من الكلام أسبق إلى النفس من مسموعه إلى الأذن، وتكون الفائدة من طريق المعنى أبلغ من ترصيع اللفظ، وتقفية الحروف، وتكون البساطة فيه أغلب من التركيب، ويكون المقصود ملحوظا في عرض السنن، والمرمى يتلقى بالوهم لحسن الترتيب.

-بلاغة البديهة: فأن يكون انحياش اللفظ للفظ في وزن انحياش المعنى للمعنى، وهناك يقع التعجب للسامع، لانه يهجم بفهمه على ما لايظن أنه ظفر به كمن يعتر بمأموله، على غفلة من تأميله، والبديهة قدرة روحانية، في جبلة بشرية، كما أن الرّضوية صورة بشرية، في جبلة روحانية.  

-بلاغة التأويل: وهي التي تأولها العلماء بالاستنباط من كلام الله عزوجل وكلام رسوله (ص)…وهاهنا تنثال الفوائد، وتكثر العجائب، وتتلاقح الخواطر، وتتلاحق الهمم، ومن أجلها يستعان بقُوى البلاغات المتقدمة بالصفات الممَثَّلة، حتى تكون معينة ورافدة في إثارة المعنى المدفون، وإنارة المراد المخزون[5].

        وقد اعتبرالتوحيدي ضمنيا هذه الملامح المميزة لمعاني العطف في تحديده لضروب البلاغة في الخطاب القصدي من قبيل النسج الأسلوبي، الذي لم يسبق إليه في التصور العقلي في رسم المعاني وتشكلها، ولهذا نجده يعالج بالطريقة نفسها، عددا من التحديدات، كمفهوم “السكينة” التي نقل فيها مجموعة من المعاني العطفية التي ميزت بين أنواعها؛ كالسكينة الطبيعية، والنفسية، والعقلية، والإلهية[6]. وتمييزه بين الشريعة و ضروب الفلسفة[7]، وبين النفس وأنواع الأرواح.

========================

[1]-البصائر والذخائر، للتوحيدي، 1/151.

[2]– مفتاح العلوم للسكاكي، ص.436.

[3]-الإمتاع، 2/252.

[4]-الصناعتين، ص.109.

[5]-يرجع إلى الإمتاع، 2/252-253.

[6]-نفسه، 1/146.

[7]-نفسه،2/174.