كان طبعيًّا أن يتجه البحث اللغوي عند العرب هذه الوجهة المتميزة من غيره من البحوث عند الأمم الأخرى ، وأن ينماز عن غيره بهذه الاعتبارات الدينية ، والتي تجعل الحرص على الموروث اللغوي من قبيل التدين ، وتجعل الحفاظ على اللغة القديمة من قبيل الحفاظ على الدين ذاته ؛ لأن اللغة والدين – من هذه الحيثية – وجهان لعملة واحدة ، فهي من ناحية توقيف إلهي ، ومن ناحية ثانية الوسيلة لإثبات عربية القرآن الكريم ، وما يترتب على ذلك من بحث الإعجاز .
وقد صدق القائلون : إن الحضارة العربية هي حضارة النص بمعنى أن علوم المسلمين جميعا قامت حول النص القرآني المعجز .
لذلك يبدو الحرص الشديد لدى علماء اللغة على الألفاظ العربية، والتمسك بها حتى الميتة منها يسعى بعضهم لإحياء هذه الألفاظ، وإدراجها في اللغة المستعملة ، كما يبدو الحرص على التمسُّك بالأساليب القديمة، والتزام النظام القائم في ضم الكلمات على نحو صناعة الجملة ، وعدم الخروج على هذا النسق القديم.
لكننا إذا عدنا إلى منهج القدماء في جمع اللغة وجدنا أنهم لم يأخذوها من جميع القبائل العربية ، فإن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يتكلمون بلغة واحدة ، بل كانت هناك لهجات عدة اصطُلح على تسميتها باللغات ، وأن هذه اللغات كانت مختلفة فيما بينها اختلافًا شديدًا ، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول : ” ما لسانُ حِمْير بلساننا ، ولا لغتُهم بلغتنا ” ([1]) .
وكان لأهل اليمن وعمان وحضر موت لهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم ، وكان معروفا أن علماء اللغة فرقوا بين عربيتين :
العربية الشمالية التي كانت في الشمال من شبه الجزيرة العربية ، في الحجاز ونجد وبقية شبه الجزيرة.
العربية الجنوبية التي كانت في الجنوب هناك ، في اليمن وحضر موت وبقية العربية الجنوبية.
ومع أن هذا تقسيم جغرافي لكنه يثبت الفرق بين اللغتين في النظام القائم ، فهناك اختلافات صرفية واختلافات نحوية بين اللغتين.
وإذ كان النظر إلى القرآن الكريم إبَّان الجمع فقد روعي في المجموع اختيار المستوى الذي يساعد على فهم الكتاب العزيز نحويًّا وصرفيًّا وبلاغيًّا ، فكانت القبائل التي تؤخذ عنها اللغة هي التي تحقق هذا المستوى ، فاستبعدوا القبائل التي تجاور الأمم الأخرى خشية التداخل بين العربية والأعجمية ، فحُدِّدَت ستُّ قبائل فقط مصدرًا للعربية هي :
قيس ، وتميم ، وأسد ، وهُذيل ، وبعض طييء ، وبعض كنانة .
في حين أُهمِلت القبائل الكثيرة الأخرى، والتي تزيد عن ثلاثين قبيلة، فأُهْمِلت قبيلتا لخم ، وجذام – مثلا – لمجاورة أهل مصر والقبط ، وأهملت قبائل قُضاعة، وغسَّان، وإياد لمجاورتهم أهل الشام ، وأهملت قبيلة تغلب لمجاورتها اليونان ، وأهملت قبيلة بكر لمجاورتها الفرس ، وأُهمِلت قبيلتا عبد القيس ، وأزد عمان لمجاورتهما الفرس والهند.
ولم تكن هذه الحدود صارمة عند اللغويين فقد تجاوز بعض الشعراء عامل المكان الجغرافي ، وجاء شعرهم ضمن الأشعار المستشهد بها مثل شعراء تغلب واليمن وبعض قبائل الأطراف .
يتبين من هذا أن القبائل التي حرص اللغويون على جمع لغتها هي القبائل التي كانت حافة بقريش تلك القبيلة التي – كانت بحكم موقعها الجغرافي وقيمتها الدينية – تمثل المستوى الأمثل للغة ، والتي نزل القرآن بلغتها ، والتي ارتفعت عما يُكدِّر اللغات الأخرى ، فتحقق فيها النموذج الأمثل للفصاحة .
ومع اختلاف اللغات الأخرى عن لغة قريش فإن اللغويين لم يكن يعنيهم هذا الاختلاف لأن الغرض من الجمع – في الأساس – هو تهيئة الوسيلة المثلى لفهم لغة القرآن الكريم ، ومن ثم فلا حاجة لعلماء اللغة بالظواهر اللهجية الأخرى التي تحتوي عليها اللغات غير المجموعة ، وإن كانوا أشاروا إليها ، لكنها إشارة تأتي في سياق المقارنة بين لغة قريش – وما تمتاز به من وجوه الفصاحة- واللغات الأخرى – وما تشتمل عليه من ركاكة -.
“قال الفرّاء : كانت العرب تحضر الموسم في كل عام ، وتحج البيت في الجاهلية ، وقريش يسمعون لغات العرب ، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به ، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ، ومستقبح الألفاظ ؛ من ذلك : الكشكشة . . والكسكسة . . والعنعنة . . والفحفحة .. والوكْم .. والوهم . . والعجعجة . . والاستنطاء .. والوتم . . والشنشنة . . ” ([2]) .
علمًا بأن هذه الظواهر ما زال بعضها حيًّا إلى اليوم في الاستعمال العامي .
فلم تكن اللغة مقصودة لذاتها حين جُمِعت ودُوِّنت ، ولكنها كانت مطيَّةً لفهم القرآن الكريم ، وما يترتب على ذلك من إهمال كثير من اللغات التي ابتعدت عن قبيلة قريش ، والتي كانت تسكن أطراف شبه الجزيرة العربية ، والتي كانت تحتوي على ظواهر صرفية ونحوية تختلف عن لغة قريش والقبائل الأخرى المعتمدة في الجمع ، والتي عدَّها العلماءُ النموذجَ المعتمدَ للفصاحة .
وقد أراد العلماء فيما بعد أن تسود هذه اللغة التي بها نزل القرآن ، وأن تكون المرجع في الحكم على التعبير بالصواب أو الخطأ ، فما وافقها أُجيز ، واعتُبِرت عربيته ، وتحققت فصاحته ، وما خالفها مُنِع ، ووصِف بعدم الفصاحة ، فـ ” علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرًا ، أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها .. فالمراد بالفصيح ما كثر استعماله في ألسنة العرب ” ([3]) .
وبالنظر إلى ما سبق يتبين أن ليس المراد جميع العرب ، وإنما بعض القبائل العربية التي أخذت عنها اللغة .
ومع اعتراف العلماء بأن المجموع اللغوي لا يمثِّل القبائل العربية جميعًا ، فقد أرادوا أن يتخلصوا من تلك المشكلة بالاعتذار بسعة اللغة ، فقالوا : ” لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا ، وأكثرها ألفاظًا ، ولا نعلم أن يحيط بجميع علمه إنسانٌ غير نبي ” ([4]).
ذلك لأنهم اقتصروا في الجمع على قبائل بعينها ، وتركوا ما عداها مما يحوي ألفاظًا أكثر من المجموع .
( يُتبع)
====================