الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد،،
فإنَّ التكريم الذي حصلتْ عليه العربيةُ بِعدِّها لغةً رسميةً في الأمم المتحدة بناءً على قرارها رقم 3190 في دورتها الثامنة والعشرين، وذلك في الـثامن عشر من ديسمبر عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين (1973) ميلادية، حيث اعتمدتْ الجمعيةُ العامةُ اللغةَ العربيةَ لغةَ عملٍ رسميةً بها، لتكون بذلك إحدى اللغات الست التي تعمل بها الأمم المتحدة، وهي: العربية والإنجليزية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية.
وكذا اعتبار هذا اليوم الثامن عشر من ديسمبر من كل عام يوم تكريم لها، ليس هذا هو التكريمَ الأولَ من نوعه، ولا العلامة الفارقة في اعتبارها لغةً تستحق التكريم والتقدير.
فالتكريم الحقيقي والأول في سلسلة التكريمات التي نالتها لغتُنا الحبيبةُ تمثل في اختيار الله عزوجل لها أن تكون وعاءً لكتابه المعجز ، قال تعالى: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2] وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء 192: 195].
ويتمثل أيضا في أنها مناطُ تحدي اللهِ عزوجل العربَ جميعًا بأن يأتوا بمثل هذا القرآن العربي المؤتلف من أصوات لغتهم وألفاظها، أو بعشر سور منه، أو حتي بسورة من مثله، وهو ما لم يستطيعوه، مع تفوقهم في مجال الفصاحة والبيان وامتلاكهم نواصي الكلام العربي شعرِه ونثرِه.
كذلك من تكريمات اللغة العربية ما يتعلق بالجانب التعبدي، من حيث إنه لا يقرأ القرآن بغير لغته العربية ولا يصلى بغيرها، يقول الإمام النووي رحمه الله في المجموع: مذهبنا أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب سواء أمكنه العربية أو عجز عنها، وسواء كان في الصلاة أو غيرها فإن أتى بترجمته في صلاة بدلا عن القراءة لم تصح صلاته سواء أحسن القراءة أم لا، هذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء منهم مالك وأحمد وداود.
وقال الإمام ابن قدامة في المغني: ولا تجزئه القراءة بغير العربية ولا إبدال لفظها بلفظ عربي سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن، وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد.
وما نسب إلى الإمام أبي حنيفة من جواز قراءة القرآن بالفارسية لغير القادر على العربية صحّ رجوعه عنه، والفتوى عند الحنفية على منع قراءة القرآن بغير العربية.
وكذلك يلحق بهذا الجانب التعبدي عدم صحة خطبة الجمعة بغيرالعربية إلا لحاجةٍ، وهو قول الشافعية والحنابلة. وعدم صحتها بغيرها على وجه العموم ولو كان السامعون لا يعرفون العربية، وهو قول المالكية والصحيح عند الشافعية والمشهور عند الحنابلة.
ولست هنا في معرض ذكرِ هذه التفصيلات الفقهية ولا ذكرِ الراجح منها والمرجوح وإنما تكفيني دلالة اشتراطها في مثل هذه الأمور التعبدية.
فإذا انتقلنا من بعض مظاهر التكريم الذي نالته العربية على مدار تاريخها الطويل، إلى عالمية الاحتفاء بها، ألفينا العالم كله يقف موقف الاحترام والتقدير لهذه اللغة المعطاءة، ذلك الموقف الذي لا ينبع من تعصب أعمى أو ادعاءات جوفاء، وإنما يحدوه ما امتازت به هذه اللغة من مقومات جعلتها صامدة عبر هذا التاريخ الطويل في وجه تلك الضربات القاسية التي وجهت إليها في بعض العصور، وتلك التحديات التي وضعت في إطارها في ركب التقدم الحضاري المتلاحق.
وبحسبنا أن نذكر من مزايا هذه اللغة الشريفة اعتبار العلماء لها من أرقى اللغات الإنسانية، ذلك أنها تنتمي إلى اللغات المتصرفة أو الوصلية بحسب تقسيم العالم الألماني شليجل وهو أعلى أنواع اللغة رقيا، أو تنتمي إلى لغات النسق الحر، فبحسب الدراسات الحديثة فإن العربية:
- من الناحية التركيبية استوعبت تقريبا كل التراكيب الجملية في جميع اللغات، بشهادة علماء الكليات اللسانية أنفسهم.
- وكذا فإن انتماء العربية إلى لغات النسق الحر أتاح لها من الموائز ما لم يتوافر للغة عالمية كالإنجليزية على سبيل المثال.
ولنرجع إلى هذه النتائج وأمثالها على سبيل المثال إلى بحث ( العربية بين اللغات رؤية مغايرة ) وغيره من البحوث التي عالجت هذا التفوق اللغوي بمنهجية علمية موضوعية لا سبيل إلى الأحكام العامة أو غير القائمة على الدليل فيها.
وإذا كان من مظاهر ذلك الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية العمل على حمايتها والعمل على تنميتها وتعليمها لأكبر قطاع ممكن من غير الناطقين بها، فقد كان الأزهر الشريف ممثلا في مركز تطوير الطلاب الوافدين والأجانب حريصا على المشاركة في هذا الاحتفاء بهذه اللغة الشريفة من خلال العمل على نشرها وإتاحة تعلمها وتعليمها، وهي مجالات يصعب حصر جهود الأزهر الشريف بالتوجيهات الدائبة لفضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر حفظه الله، فإني سأكتفي هنا بمثال واحد يتمثل في العناية بواحد من أهم مقومات عملية تعليم العربية للناطقين بغيرها، وهو المعلم ،
من خلال البرنامج الدولي لمعلمي الناطقين بغير العربية، الذي يعد بحق رائدا في هذا المجال لا على المستوى المحلي وإنما على المستوى العالمي، متوشحا بالطابع الأزهري من حيث المحافظة على المقررات العربية الأصيلة كالنحو والبلاغة وعرضها في ثوب عصري قشيب، يكون زاد للدارس في رحلته التعليمية تلك. كما تتنوع المحاور التي تنطلق منها مقررات البرنامج ما بين المقرراتِ الأكاديمية والمقررات التربوية والمقررات المهنية والمقررات التقنية، ليواكبَ الدارسُ الاتجاهاتِ التعليميةَ الحديثةَ، بما يقدمه البرنامج من مدخلات متنوعة المشارب، مع تزويد الدارس بالخبرات العملية اللازمة.
إسهاما من الأزهر الشريف في الاحتفاء العالمي بهذه اللغة من ناحية، وتلبية لرغبة عاشقي لغة الضاد والمتعطشين للنطق بها من ناحية أخرى.
ولعل من المناسب هنا ختاما أن أجتر ثلاثة من أقوال المستشرقين عن العربية، بما يظهر ذلك الاحتفاء العالمي لهذه اللغة، أول هذه الأقوال:
قول المستشرق الألماني يوهان فك “لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية”.
وثاني هذه الأقوال للمستشرق الألماني بروكلمان: “بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أية لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعاً مؤمنون بأن العربية وحدها اللسان الذي أُحِل لهم أن يستعملوه في صلاتهم”.
وختام الأقول الثلاثة ما تحدث به الفرنسي إرنيست رينان قائلاً “من أغرب المُدْهِشات أن تنبتَ تلك اللغةُ القوميّةُ وتصلَ إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمّةٍ من الرُحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولم يُعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة”.
أسأل الله أن يحفظ العربية أبد الدهر وأن يقر أعيننا بها لغة الدنيا كلها.. اللهم آمين