Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

الحلقة السابعة: بين الدلالة وعلم الدلالة

أولاالدلالة (مفهومها، أنواعها)

أ): مفهوم الدلالة:

   تقوم مادة (د. ل. ل) على معنى (( إبانة الشيء بأمارة تتعلّمها)) ([1]) كقولنا دللت فلانا على الطريق، والدليل الأمارة على الشيء مما يساعد عن الإبانة عنه. وفيه معنى الهداية والإرشاد، ومنه قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) ([2]) أي: ترشدكم إليه. وقوله: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) ([3]) أي: ما هداهم وأرشدهم إليه.

 وفي ضبطها نقول: الدِّلالة والدَّلالة بكسر الدال وفتحها.

   وهناك اختلاف بين العلماء حول العلاقة بين الدلالة والمعنى، هل هما شيء واحد أم أنهما مختلفان؟ وما نذهب إليه أنهما مختلفان، فالدلالة أوسع من المعنى، حيث إن مفهوم الدلالة يشمل المعنى اللغوي وغيره كدلالة تجمع المارة في الطرق السريعة على وقوع حادث، ودلالة الدخان على النار، وإشارات المرور وغيرها من الدلالات غير اللغوية، بينما ينصب المعنى على الجانب اللغوي، فللكلمة معنى وبالتالي دلالة وللجملة معنى وكذلك دلالة؛ لأنه الدلالة أعم.

   والدلالة كما عرفها الجرجاني هي: (( كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال، والشيء الثاني هو المدلول )) ([4])

   ولنضرب مثالا يوضح هذا التعريف: إذا وجدنا سحابًا مجتمعًا يميل إلى لون الغبرة (فهذا دال) وهذا الدال يشير إلى شيء آخر هو احتمال نزول المطر (وهذا مدلول).

   وكذلك الكلمة، أيُّ كلمة فهي عبارة عن دالٍّ، مثل: كلمة (السفينة)، وهي تشير إلى شيء آخر يسمى المدلول، وهو هنا: الوسيلة التي تركب في البحر، بشكلها المعروف.

   إن أي كلمة لها جوانب ثلاثة ذكرنا اثنين منها فيما سبق وهما: الدال والمدلول، ثم تأتي نسبة الدال إلى المدلول، والشكل التالي يوضح ذلك:

 

                                النسبة

 

                              الدال                               المدلول

ولنشرح ذلك بقولنا:

   إن ذكرت أمامك (أكلتُ فرصادًا) فقد أوردتُ ضمن هذه العبارة دالًا (كلمةً) وهي (الفرصاد)، ولاشك أن لهذه الكلمة مدلولا تدل عليه (شيء في العالم الخارجي)، ولكنك لم تصل إلى فهم معنى هذه الكلمة بعدُ، لماذا؟ لأن النسبة لم تتحقق عندك، فالنسبة تتحقق من المخزون اللغوي الذي يحصله الإنسان من اللغة، والذي يختلف حجمه من شخص إلى آخر بحسب المعرفة اللغوية، فإذا قلتُ لك إن الفرصاد هو التوت، وضحتُ لك نسبة الدال إلى المدلول.

   وبالتالي فإن ذلك يفسر لنا عدم فهم الناطقين بغير العربية للمعاني، فعندما ننطق أمامهم بعض العبارات أو بعض الكلمات المفردة فقد تحقق الجانب الأول وهو وجود (الدوال)، وهذه الدوال لاشك تحيل إلى (مدلولات) هي عبارة عن الأشياء الموجودة في العالم الخارجي، والتي قد يعرفها الدارس، ويراها أمامه أو يعلم وجودها، لكن ما ينقص هنا هو وجود النسبة بين الدوال والمدلولات، وهذا هو الجانب الذي يعمل عليه معلم الناطقين بغير العربية، فحينما يقول: قلم (= دال) ويأتي بقلم يمسكه بيده (مدلول) فإنه بذلك يعقد العلاقة بين الدال والمدلول من خلال تحقيق النسبة بينهما عند الدارس.

   إذا فالصورة قد تعين على فهم النسبة، والإشارة الجسدية قد تعين على فهم النسبة، والرسم قد يعين على فهم النسبة، وتمثيل الموقف قد يعين على فهم النسبة، وغيرها من الوسائل التي يعتمد عليها معلم اللغة الثانية.          

ب): أنواع الدلالات:

   بعيدًا عن الاختلافات المتعددة لأنواع الدلالات التي تنبني على اختلاف رؤية العلماء لها باختلاف مناهجهم ومجالاتهم المعرفية، ما بين لغويين وأصوليين وبلاغيين، فإننا سنعتمد على ما أورده الجاحظ في هذا الشأن؛ لسهولة فهمه، وعمق دلالته.

   يقول الجاحظ: (( وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد، أولها: اللفظ، ثم الإشارة، ثم الَعْقد، ثم الخط، ثم الحال..))([5])  

فأما اللفظ فهو كل ما يلفظ به فمك، وينطق به لسانك، سواءً أكان كلمة أو جملة أو غيرهما، وهنا راعى الجاحظ الجانب الصوتي للكلام.

وأما الإشارة، فكاستعمال الإنسان حركات يده في الدلالة على بعض الأمور كطلب شيء أو النهي عنه، وقد يتعدى ذلك اليد إلى الإشارات الجسدية كلها، فللعين إشارات دالة، وللحاجب إشارة دالة، ولحركات الوجه مثلها. وقد كان ذلك – على سبيل المثال- من ضمن الأمور التي حرص رواة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على تضمينها رواياتهم المتعددة للأحاديث لتدل على الحال التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم ساعة قوله الحديثَ.

وأما العقد، فهو الحساب، فالأرقام لها دلالات متعددة، تختلف باختلاف المقام الواردة فيه، فرقم (3) على سبيل المثال، قد يدل على اليوم الأول من كل شهر، أو على شهر مارس، وهو أحد شهور السنة الميلادية، أو شهر ربيع الأول من الشهور الهجرية، أو رقم القاعة التي فيها المحاضرة، قد يكون مصدر تفاؤل عند البعض أو تشاؤم غير غيرهم.. إلخ

وأما الخط، فمعروف أن الخط بالنسبة للصوت، كالظل بالنسبة للشخص، فالرموز المكتوب لها أهميتها في الدلالة على الأشياء، وهي الباقية بعد انمحاء أثر صاحبها، على حد قول القائل:

الخط يبقي زمانا بعد كاتبه :: وصاحب الخط تحت الأرض مدفونا

وأما الحال، فتدل على ما يعترى الإنسان أو الأشياء من هيئات متعددة، تعطي دلالات ذات إيحاءات خاصة، ومن ذلك شحوب الوجه وانحناء الظهر بالنسبة للإنسان دلالة على المرض والكبر، وارتفاع أمواج البحار دلالة على الخطر.

ثانيًا- علم الدلالة

   أفرز توافر الدراسات على الدلالة وأنواعها وقضايا ما يعرف بـ(علم الدلالة) فما هو وما أهم قضاياه؟

علم الدلالة هو: العلم الذي يدرس المعنى ومشكلاته.

   ونعتمد في دراسة المعنى على كل الوسائل المناسبة لإيضاحه وإزالة مشكلاته، سواء منها ما يتعلق بالكلام نفسه أو ما يعتمد على سياق خارجي لا يفهم الكلام فهما حقيقيا إلا من خلاله، وإذا فكيف أن معنى كلمة (المصانع)-  على سبيل المثال- في قوله الشاعر:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع :: وتفنى الجبال بعدنا والمصانع

إذا لم نعرف قائل النص مثلا؟

   فإذا عرفنا أنه (لبيد) وهو شاعر مخضرم عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام، تبددت لدينا معاني عدة، منها أن يكون المراد بالمصنع بمفهومه الحديث، ويظل معنى كلمة (مصانع) هنا هي القصور المشيدة، وهو مثل قوله تعالى (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) ([6])

أنواع المعنى:

   للمعنى أنواع متعددة يقتضي أن نعرف بعضها للوقوف على مدى تأثير كل منها في تعليم الناطقين بغير العربية والدور الذي تلعبه خلالها، ومعرفة المشكلات التي قد تنشأ نتيجة عدم التفريق بين تلك الأنواع لدى دارسي العربية من غير أهلها.

   وقد يظن بعضهم (( أنه يكفي لبيان معنى الكلمة الرجوع إلى المعجم، ومعرفة المعنى أو المعاني المدونة فيه. وإذا كان هذا كافيا بالنسبة لبعض الكلمات فهو غير كاف بالنسبة لكثير غيرها)) ([7]) ولذا وجب التعرف على بعض تلك الأنواع، ومنها:

=================

([1]) مقاييس اللغة (د.ل)

([2]) الصف: 10

([3]) سبأ: من الآية 14

([4]) التعريفات للجرجاني (91)

([5]) البيان والتبيين (1/75)

([6]) الشعراء (129)

([7]) علم الدلالة (36)