Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

الفروق الدلالية عند ابن القيم [5] البر والتقوى .. بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

ذكر ابن القيم لفظي البر والتقوى عند تفسير قوله تعالى:( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )[1]، وبين أنهما جماع الدين كله، وأن اللفظين إذا اجتمعا فلكل منهما معنى ينفرد به عن صاحبه، وإذا تفرقا فكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر, إما تضمناً وإما لزوماً, والتضمن أظهر, وذلك لأن البِرّ جزء مسمى التقوى, وكذلك التقوى فإنها جزء مسمى البر, وعلى هذا فحين ينفرد أحدهما يمكن أن يقوم مقام الآخر, أما اجتماعهما في سياق فيقتضي المغايرة في المعنى[2]، ودلل على ذلك بهذه الآية, “فالبر كلمة جامعة لجميع أنواع الخير, والكمال المطلوب من العبد, وفي مقابلته الإثم”[3]، وحقيقته: الكمال المطلوب من الشيء, والمنافع التي فيه والخير, كما دل عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام, ومنه البُرٌّ- بالضم, لمنافعه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب, ومنه رجل بار”[4].

والبر بهذا المعنى الذي ذكره ابن القيم يشمل كل باب من أبواب الخير الدنيوي والأخروي, المتعلق بالله والمتعلق بالخلق، وقد جمع الله خصاله في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) [5]، فتناولت هذه الخصال حقائق الدين وشرائعه, والأعمال المتعلقة بالجوارح والقلب, فضلاً عن أصول الإيمان الخمسة[6].

أما التقوى- عنده – فحقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً, أمراً ونهياً, فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالأمر وتصديقاً بوعده, ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده[7], واستشهد على ذلك بقول طلق بن حبيب حين سئل عن التقوى فقال: “أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله”[8]. ثم قال ابن القيم: “وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى”[9]. فالتقوى على هذا هي الطريق الموصل إلى البرّ, والوسيلة إليه, ولفظها يدل على هذا, فهي فَعْلَى, من وَقَى يَقي … فلفظها دال على أنها من الوقاية, فالمتقي, هو الذي يجعل بينه وبين كل ما يغضب الله وقاية[10].

فالفرق بينهما إذن فرق بين السبب المقصود لغيره, والغاية المقصودة لنفسها, فالبر مطلوب لذاته, والتقوى هي وسيلة هذه الغاية, والطريق الموصلة لها[11].

وقد نظر بعض العلماء إلى حال تفرقهما وانفراد كل واحد منهما عن صاحبه فجعلهما بمعنى واحد في كل حال، وأن الاقتران بينهما في آية المائدة جاء للتأكيد على المعنى، فقال: “البرَ والتقوى لفظان لمعنى واحد, وكرر للتأكيد”[12]. لكن المحققين من العلماء فرقوا بينهما – كما فرق ابن القيم بينهما في حال الاقتران؛ فالراغب مثلاً يجعل البِرّ وهو التوسع في فعل الخير, وهو مشتق من البَرِّ الذي هو خلاف البحر، حيث يُتصور منه التوسع[13].

أما التقوى فهي جعل النفس في وقاية مما يخاف, وهي في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم, وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات”[14]. “وجعل بعضهم البر ما أمرت به, والتقوى ما نهيت عنه”[15]. وبعضهم يرى أن البِرّ اسم جامع للخير[16], أو اسم للخير ولكل فعل فرضي[17]، والتقوى اسم مانع من الشر, أو حفظ النفس من الإثم[18], أو صيانتها وسترها عن الأذى[19]. ويرى ابن عطية أن البِرّ أعم من التقوى, فهو يتناول الواجب والمندوب, والتقوى تختص بالواجب[20]. وأكد ذلك ابن القيم بقوله: “ولا ريب أن التقوى جزء هذا المعنى[21]. ولأن البر اسم جامع لكل خير, فهو يشمل مفردات هذا الخير من صلاح وصلاة وحج وصدقة وصيام وإنفاق وغير ذلك من وجوه الخير الواجبة والمندوبة، ولذلك فسره بعضهم بجزء من معناه, فقال الكفويّ: “البِرّ – بالكسر – الصلة والجنة والخير والاتساع في الإحسان والحج والصدقة والطاعة وضد العقوق, وكل فعل مرضيّ”[22].

=======================

[1] المائدة آية 2

[2] الضوء المنير 2/327

[3] السابق الصفحة ذاتها

[4] الضوء المنير 2/327

[5] البقرة آية 177

[6] الضوء المنير 2/328

[7] السابق والصفحة ذاتها

[8] الضوء المنير 2/328 , 329

[9] السابق 2/329

[10] السابق والصفحة ذاتها

[11] السابق 2/329

[12] فتح القدير للشوكاني 1/224

[13] المفردات ص 51

[14] السابق ص 545

[15] فتح القدير 2/11

[16] السابق 1/224

[17] الكشاف 1/198

[18] المفردات ص 545

[19] اللسان “وقى”

[20] فتح القدير 2/10

[21] الضوء المنير 2/328

[22] الكليات ص 231 وانظر اللسان والقاموس “برر”