حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

بين اللسانيات الحديثة…وعبد القاهر الجرجاني [ثنائية الداخلي والخارجي] (4) بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب

تتلخص هذه الثنائية عند سوسير في كيفية دراسة اللغة، فهناك عوامل داخلية وأخرى خارجية مسئولة عن تكوين النظام اللغوي، ونعني بالدراسة الداخلية وظيفة كل عنصر من عناصر اللغة وعلاقته بغيره بدءاً بالصوت ثم البنية الصرفية ثم التركيب ثم الدلالة، وغياب أي عنصر من هذه العناصر يتسبب في إعاقة التواصل، والمراد بالعوامل الخارجية ” البحث في علاقة اللغة بالجنس البشري، وتأثير التاريخ السياسي في اللغة، وعلاقة الثقافة والنظم الاجتماعية باللغة، ناهيك عن تتبع الاستعمالات اللهجية والجغرافية للغات”([1]).

وهذه الثنائية تدخلنا بالتالي في ثنائية أخرى؛ وهي ثنائية التزامني والتاريخي، والمراد بالتزامني: المنهج الوصفي، ويسمى: الآنيّ أيضاً، والمراد بالتاريخي: المنهج التاريخي.

 ودراسة اللغة دراسة وصفية تقوم على النظر في العناصر الداخلية للغة وربط بعضها ببعض في فترة زمنية حاضرة وليست ماضية، كما أن ثمة علاقة بين المنهج التاريخي والعناصر الخارجية، حيث يعنى المنهج التاريخي بدراسة العناصر الخارجية ” كالبحث في نشأتها وتطورها، وعلاقتها باللغات المجاورة، وذلك يسلمنا في الوقوع في فلك العلوم الأخرى كالمنطق، والأديان، والمقارنات، التاريخية، والحضارية، والثقافية”([2]).

وإذا جاز للدراسة أن تقول بأسبقية نظرية النظم عند عبد القاهر فيما يخص الدال والمدلول، واللغة والفكر، فإن من الإنصاف أن تتوقف وتقر في موضوعية تامة أن عبد القاهر لم ينص على ثنائية التزامني والتاريخي، وثنائية الداخلي والخارجي في نظريته، فالحديث عن المناهج في دراسة اللغة مما تميزت به اللسانيات الحديثة، وإن كنا لانعدم أن نجد في الحقيقة إشارات وشذرات لعبد القاهر فيما يتعلق بدراسة العناصر الخارجية للغة؛ على نحو ما ذكر في مبحث التقديم والتأخير، وأن العرب تقدم ما ذكره أهم بالنسبة للمخاطب، كما هو واضح من مثال الخارجيّ السابق ذكره” ([3])

وبالجملة يمكن القول: بإن مظاهر الخروج عن مقتضى الظاهر ما هي إلا استجابة لأحوال المخاطبين، وكلها من الأمور الخارجية عن عناصر اللغة وقد شغلت هذه القضية حيزاً كبيراً من نظرية النظم عند عبد القاهر فقد ينزّل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل، لعدم جريه على موجب العلم، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل بأحدهما”([4]) وهي أمور خارجة عن اللغة.

وينزل غير السائل منزلة السائل، إذا قدِّم إليه ما يلوح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد الطالب…. و كذلك ينزل غير المنكر منزلة المنكر؛ إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار… و كذلك ينزل المنكر منزلة غير المنكر؛ إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن الإنكار” ([5]) وهي من العناصر الخارجة عن اللغة.

وما فكرة المجاز في ذاتها إلا عدولاً عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي لغرض بلاغي اقتضاه المقام وتطلبه السياق، لأن الأصل فى الكلام أن يكون محمولاً على الحقيقة، سواء فى ذلك التجوز من جهة اللغة أو من جهة الإسناد، يقول يحيى بن حمزة العلوى:”الأصل فى إطلاق الكلام أن يكون محمولا على الحقيقة ولا يعدل إلى المجاز إلا لدلالة، فإن المجاز على خلاف الأصل لامحالة” ([6]).

فإذا طالعنا مبحث أحوال المسند إليه أبصرنا اهتمام عبد القاهر بالعناصر الخارجية، فيعدل من ذكره إلى حذفه لأغراض بلاغية جاءت مطلب سياق ومقتضى مقام، وكذلك يعدل من تنكيره إلى تعريفه.

وفى تعريفه باسم الإشارة ينزل القريب منزلة البعيد والبعيد منزلة القريب تحقيراً أو تعظيماً.

وكذلك الحال فى تعريفه بالإضمار، فيعدل من التعيين إلى عدم التعيين مع أن أصل الخطاب أن يكون لمعين.

وما قيل فى أحوال المسند إليه يقال فى أحوال المسند فيعدل من ذكره إل حذفه، ومن تنكيره(إذا كان اسماً) إلى تعريفه، ومن تأخيره إلى تقديمه (إن كان اسماً كذلك).

وفى ثنابا الحديث عن تقييده بالشرط – إن، إذا – لوـ نبصر ملامح العدول وما وراءها من أسرار بلاغية بين تبادل مواقع “إن” و”إذا”، فتستعمل “إن” فيما هو مقطوع به عدولاً، وتستعمل “إذا” فيما هومشكوك فيه عدولاً أيضاً.

 وغنى عن البيان ما نلاحظه فى الأساليب الإنشائية من خروج عن المألوف فى استعمالات الناس، فيعدل من ” ليت ” الموضوعة للتمنى إلى “لو” و”هل” و”لعل” وغير ذلك من أدوات التحضيض والتنديم، وفى مبحث النداء ينادى على القريب بأداة البعيد والعكس عدولا.

ويستعمل كل من الاستفهام والأمر والنهى فى غير معانيها عدولا أيضاً.

فإذا ما وصلنا إلى أسلوب القصر أبصرنا العناصر الخارجية وراء العدول فى طرقه وخاصة طرقى “النفى والاستثناء ” و”إنما” فيستعمل طريق النفى والاستثناء فيما لا ينكره المخاطب عدولا، نحو قوله تعالى:” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل” ([7]) فالصحابة لم ينكروا رسالته، ولكنهم نزلوا منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من أمارات استعظام موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخوطبوا خطاب المنكر عدولاً، وتستعمل “إنما” فيما هو مجهول عدولا أيضاً مع أن الأصل أن تستعمل “إنما” فيما هو معلوم للمخاطب.

إذاً فقد شغلت ظاهرة العناصر الخارجية، وبالتحديد المقام والحال حيزاً كبيراً من فكر عبد القاهر اللغوي، وإن لم ينص عليها صراحة، إلا أن تفوقه في مجال التطبيق يشهد بوعيه وإدراكه لطبيعة اللغة وعناصرها الداخلية والخارجية، وكما يقول أحد الباحثين:” فإن أراء عبد القاهر – في مجموعها – تتفق مع ما تذهب إليه مدارس اللغويين المحدثين، من وجوب مراعاة المقام وسياق الحال، وإدخال بعض العناصر غير اللغوية المتصلة بالكلام”([8]).

==============================

([1]) اللسانيات اتجاهاتها وقضاياها الراهنة ص80

([2]) ينظر ” اللسانيات ونحوالنص ص17، 18

([3]) دلائل الإعجاز ص 108، 109 بتصرف.

([4]) الإيضاح للخطيب القزوينى صـ 199 ـ جـ 1 ـ ضمن شروح التلخبص – دار الكتب العلمية – بيروت لبنان

([5]) الإيضاح للخطيب القزوينى صـ 209 ـ211 ـ جـ 1 ـ ضمن شروح التلخبص.

([6]) الطراز للعلوى صـ39

([7]) سورة آل عمران الآية 144

([8]) عالم اللغة عبد القاهر الجرجاني ص255

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu