(لامية العرب) لقب نقدي جمعي عتيق، يرجع صوغه إلى نهاية القرن الخامس الهجري تقريبًا، ويدل على المكانة العالية لهذه القصيدة التي تبدو فيها سيَما الصعلكة: فكرًا وفنًّا وسلوكًا، حيث الثورة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الطبقية، والغربة التي يحياها كل صعلوك في بيئته، والمفاخرة بالنفس والأخلاق والشجاعة والعطاء للطبقات الدنيا، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، ومن ناحية الشكل نجد الحوشية اللفظية والجزالة اللغوية، وعدم تصريع المطلع، ودخول الكف في تفعيلة مفاعيلن بالبحر الطويل في بيت، وتعبير(ما كها) حيث دخول الكاف على الهاء شذوذًا. ومن ثم كان هذا الأثر الراشدي التحريضي على تعلمها وتعليمها، حيث ينسب رواة القرن الخامس الهجري إلى سيدنا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-أنه قال:”علموا أولادكم لامية العرب؛ فإنها تفتح الأشداق وتعلم مكارم الأخلاق”؛ فهي لامية تحقق لمتلقيها الغايتين: الاجتماعية والفنية معًا. وقد عشتُ معها غير مرة: متعلمًا على يد الدكتور محمود عباس-رحمه الله-حين كنت طالبًا، ثم معلمًا حين صرت أستاذًا، ثم باحثًا حين قراءتي بحث الدكتور محمد بظاظو عن تعدد الروايات وأثره في الأداء الفني فيها، في المجلس العلمي الإلكتروني لقسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بإيتاي البارود، يوم الاثنين1/2/2021م .
وقد وجدت أنه هذه اللامية تعرضت للتشكيك النادر من القدماء، حيث ذهب معظم الرواة والأدباء واللغويون إلى أنها للشنفرى، وانفرد (ابن دريد) بزعمه أنها لـ(خلف الأحمر)! ورجح الدكتور يوسف خليف-رحمه الله- كفة هذا الزعم وهذا الشك في صحة نسبتها إلى الشنفرى، واعتمد في ذلك على عدة أدلة، منها” أن لسان العرب حاد عن الاستشهاد بها رغم كثرة إيراده شعر الصعاليك”.
وهذا الرأي وهذا الدليل يحتاج إلى وقفة متأنية، ويثير شهية الباحث إلى السياحة في معاجم العربية العتيقة بحثًا عن اللامية ونسبتها إلى الشنفرى؛ إذ إن الدكتور يوسف خليف-رحمه الله- لم يستقص ما يخص اللامية في التراث جيدًا؛ وقد قمت بالبحث في هذه المعاجم العتيقة بدءًا من معجم العين للخليل(ت170هـ) وانتهاءً بمعجم تاج العروس للزبيدي(ت1205هـ)، فوجدت أن اللامية وردت منسوبة إلى الشنفرى في سبعة معاجم، هي: تهذيب اللغة للأزهري(ت370هـ)، و(مجمل اللغة)، و(مقاييس اللغة) لابن فارس(ت395ه)، وأساس البلاغة للزمخشري(ت538هـ)، والعباب الزاخر للصاغاني(ت650هـ)، واللسان لابن منظور(ت711هـ)، وتاج العروس للزبيدي(ت1205هـ). وقد ورد الاستشهاد في هذه المعاجم بسبعة عشر بيتًا من أبيات لامية الشنفرى، منها مطلع اللامية وختامها، عدا المكرر الذي بلغ ثلاثة عشر بيتًا، وعدا ما ذكر في معجم المحيط في اللغة لابن عباد(ت385هـ) في مادة (ح/ب/ض1/190] من ذكر غير منسوب للعجز: (مَحَابِيْضُ أرْساهُنَّ سامٍ مُعَسَّلُ). وهاك بيانًا تفصيليًّا بذلك:
خلا معجم العين من الاستشهاد بلامية الشنفرى، وفي معجم العباب نقل عن الليث فيه استشهاد باللامية! ثم كان معجم تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري((ت370هـ)، الذي ورد فيه الاستشهاد مرتين بلامية الشنفرى: المرة الأولى في مادة(ح/ب/ض، 4/130أبواب الحاء والضاد)، حيث قال:”قَالَ الْأَصْمَعِي: المحابِضُ: المَشاوِرُ، وَهِي عِيدان يُشَارُ بهَا العَسَل. وَقَالَ الشَّنفَري:
أو الخَشْرَمُ المَبْثُوثُ حَثْحَث دَبْرَه محابيضُ أَرْساهنَّ شارٍ مُعَسِّلُ
أرَادَ بالشّاري الشّائرَ فَقَلَبه، والمحارين: مَا تساقط من الدَّبْر فِي الْعَسَل فَمَاتَ فِيهِ.
ومرة الاستشهاد الثانية في مادة(ك/هـ/ا) 6/183، باب الكاف والهاء]، حيث قال: “وَقَالَ غَيره: رجل أَكْهَى: أَي جبانٌ ضَعِيف، وَقد كَهِيَ كَهاً.
وَقَالَ الشَّنْفَرَى:
ولَا جُبَّإٍ أَكْهَى مُرِبَ بِعِرْسِه يُطالِعُها فِي شَأْنه: كَيفَ يَفْعَلُ
ولعل هذه النسبة في معجم لغوي يعاصر ابن دريد(ت321هـ) المشكك في النسبة، والقالي(ت356هـ) أول من أورد اللامية منسوبة إلى الشنفرى، وقد هدف صاحبه(الأزهري) من تأليفه معجمه تنقية العربية من كل تصحيف أو حشو أو خطأ أو نحل، حيث يقول:” وَقد سمّيت كتابي هَذَا (تَهْذِيب اللُّغَة)؛ لأنِّي قصدت بِمَا جمعت فِيهِ نفْيَ مَا أَدخل فِي لُغَات الْعَرَب من الْأَلْفَاظ الَّتِي أزالَها الأغبياء عَن صيغتها، وغيَّرها الغُتم عَن سننها، فهذبت مَا جمعت فِي كتابي من التَّصْحِيف والخَطاءِ بِقدر علمي، وَلم أحرص على تَطْوِيل الْكتاب بالحشو الَّذِي لم أعرف أَصله؛ والغريب الَّذِي لم يُسنده الثِّقَات إِلَى الْعَرَب”، لعل هذا خير دليل على صحة نسبة اللامية إلى الشنفرى.
وتزداد هذه الصحة حين نرى نسبة اللامية إلى الشنفرى عند ابن فارس(ت395هـ) في معجميه:(مجمل اللغة) و(مقاييس اللغة)؛ ففي معجم مجمل اللغة[1/775باب الكاف والألف وما يثلثهما] يقول:”كيح: الكيح: سند الجبل. قال الشنفرى:
ويركدْنَ بالآصالِ حولي كأنَّني من العُصمِ أدفى ينتحي الكيحَ أعقَلُ
وفي معجم المقاييس[5/151ك/ي/ح)]، يقول:” (كيح) الكاف والياء والحاء كلمة واحدة. يقولون: الكيح: سند الجبل. قال الشنفرى:
ويركضن بالآصال حولي كأنني من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقل.
وورد الاستشهاد بلامية الشنفرى في معجم أساس البلاغة للزمخشري (ت538هـ)شارح اللامية في مادة [(ب/ع/د)1/68] ، حيث قال:”وفلان بعيد الهمة وذو بعدة. قال الشنفري:
وأعدمُ أحيانًا وأغنَى وإنما ينالُ الغِنى ذو البَعْدةِ المتبدِّلُ
الذي يبتذل نفسه في الأسفار والمتاعب”.
وورد الاستشهاد بلامية الشنفرى في معجم العباب الزاخر للصاغاني (ت650هـ)، سبع مرات، هي:
(1)- في مادة [د/ع/س)1/106]:
“والدَّعْس: الطَّعن، قال الشَّنْفَري:
دَعسْتُ على غَطْشٍ وبَغْشٍ وصُحْبَتي سُعارٌ وإرْزِيْرٌ ووَجْرٌ وأفكَلُ”
(2،3)- في مادة[(ع/م/ل/س)1/153، وكذا في(ر/ق/ط1/256]]، حيث قال: “وقال الليث: العَمَلَّس: الذئب الخبيث، قال الشَّنْفَري الأزديّ:
ولي دُونَكُم أهْلونَ سِيْدٌ عَمَلَّسٌ وأرْقَطُ زُهلوْلٌ وعَرْفاءُ جَيْئَلُ
(4)- وفي مادة[(خ/ي/ط1/253)]:
الخَيْطُ: السلْكُ، وجمعهُ خَيوطةُ – مثال فحلٍ وفحولٍ وفحوُلةٍ -، قال الشّنفرى:
وأطْوي على الخَمْصٍ الحوايا كما انطَوتْ خيوطْةُ مارىّ تغارُ وتُفْتلُ
(5)-وفي مادة[(ع/ر/ف 1/474] قال: “ويقال للضبع عًرْفاءُ؛ لكثرة شعر رقبتها، قال الشنفرى:
ولي دونكم أهلون سيد عملس وأرقط زُهْلُوْلٌ وعَرْفاءُ جيئلُ
(6)- وفي مادة(هـ/ت/ف2/37] قال: وقال الشَّنْفَرى يَصِف قوساً:
هَتُوْفٌ من المُلْسِ المُتُونِ يَزِيْنُها رَصائع قد نِيْطَتْ عليها ومِحْمَلُ
(7)- وفي مادة[(ه/ي/ف2/41] قال: “وقال الأصمعي: رجل مُهْيَافٌ: سريع العطش، قال الشَّنْفَرى:
ولَسْتُ بِمِهْيَافٍ يُعَشّي سَوَامَهُ مُجَدَّعَةً سُقْبانُها وهيَ بُهَّلُ
وفي معجم لسان العرب لابن منظور(ت711هـ) نجد ابن منظور يستشهد بثلاثة أبيات من لامية الشنفرى، هي:
(1) – في مادة: [(ح/ب/ض)7/133]، حيث يقول:” قال الأصمعي: المحابض المشاور وهي عيدان يشار بها العسل؛ وقال الشنفرى:
أو الخشرم المبثوث حثحث دبره … محابيض، أرساهن شار معسل
أراد بالشاري الشائر فقلبه. والمحابيض: ما تساقط من الدبر في العسل فمات فيه”.
(2) – في مادة: [ (ك/هـ/ى)15/234] قال:” ورجل أكهى أي جبان ضعيف، وقد كهي كهى؛ وقال الشنفرى:
ولا جبإ أكهى مرب بعرسه يطالعها في شأنه: كيف يفعل؟
(3) – وفي مادة[(ها) (15/479] مادة(ها) قال:” وقول الشنفرى:
فإن يك من جن لأبرح طارقا وإن يك إنسا ما كها الإنس تفعل
أي ما هكذا الإنس تفعل”
وفي معجم تاج العروس للزبيدي(ت1205هـ) ورد الاستشهاد باللامية نحو أربع عشرة مرة، وسنشير هنا إلى بعض هذه الاستشهادات:
(1) – في مادة[(ألد)7/391] قال: “الإِلْدَة(بِالْكَسْرِ)، أَهمله الجوهريُّ، وَقَالَ الصَّاغانيّ: هِيَ (الوِلْدَة) مثل إِرْث ووِرْث، الْهمزَة منقلبة عَن الْوَاو تَخْفِيفًا، قَالَ الشَّنفري:
فأَيَّمْتُ نِسْوَانًا وأَيتَمتُ إِلْدَةً وعُدْتُ كَمَا أَبدأْتُ واللَّيْلُ أَلْيَلُ
(2) وفي مادة[(ح/ظ/ا)20/202] قال: “وَفِي التَّكْمِلَة: أُحَاظَةُ: بََدٌ باليَمَنِ، والمُحَدِّثُون يَقُولُونَ: وُحَاظَةُ، بالوَاوِ وقَدْ تَبِعَهُم المُصَنِّفُ هُنَاكَ أَيْضاً، وناهِيكَ بِهِمْ، وكذلِكَ ذَكَرَهُ ياقُوتٌ فِي مُعْجَمِهِ، كمَا سَيأَتِي، فيَكُونُ كإِشاحٍ ووِشَاحٍ. قالَ الشَّنْفَرَى يَسِفُ القَطَا:
فَعَبَّتَ غَشاشاً ثمُّ مَرَّتْ كأَنَّهَا … مَعَ الفَجْرِ رَكْبٌ من أُحاظَةُ مُجْفِلُ
(3) وفي مادة[(ن/ك/ظ20/287] قال:” وقِيلَ: النَّكَظُ: الجُوعُ الشَّدِيدِ. قَالَ الشَّنْفَرَى:
وفَاءَ وفَاءَتْ بَادِياتٍ وكُلُّهَا عَلَى نَكَظٍ مِمّا يُكَاتِمُ مُجْملُ
(4) وفي مادة [(ج/ش/ع) 20/441] قال: “وَقَدْ جَشِعَ، كفَرِحَ جَشَعاً، فَهُوَ جَشِعٌ، مِنْ قَوْمٍ جَشِعِينَ، قالَ الشَّنْفَرَي:
وإِنْ مُدَّتِ الأَيْدِي إِلَى الزّادِ لَمْ أَكُنْ بأَعْجَلِهِمْ، إِذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ
(5) وفي مادة [(ر/ص/ع) 21/92، 4/484] قال: “قالَ ابنُ الأَعرابيِّ: الرَّصيعَةُ: البُرُّ يُدَقُّ بالفِهْرِ، ويُبَلُّ، ويُطْبَخُ بالسَّمْنِ. وَج، الكلِّ: رَصائعُ، وَقَالَ الشَّنْفَرَى يَصِفُ سَيْفاً:
هَتُوفُ منَ المُلْسِ المُتُونِ يَزِينُها رَصائعُ قدْ نِيطَتْ إِلَيْهَا ومِحْمَلُ
(6) وفي مادة[(ب/هـ/ل28/128)] قال: “وناقَةٌ باهِلٌ: بَيِّنَةُ البَهَلِ مُحَرَّكَةً لَا صِرارَ علَيها يَحْلُبها مَن شَاءَ. أوْ لَا خِطامَ عَلَيْهَا، تَرعَى حَيْثُ شَاءَت أَو الَّتِي لَا سِمَةَ عَلَيْهَا ج: بُهْلٌ كَبُرْدٍ ورُكَّعٍ قَالَ الشَّنْفَرَي:
ولستُ بمِهْيافٍ يُعَشِّى سَوامَهُ مُجَدَّعةً سُقْبانُها وَهِي بُهَّلُ
(7) وفي مادة[(ط/ح/ل 29/363] قال: “والطُّحْلَةُ، بالضَّمِّ: لَوْنٌ بَيْنَ الغُبْرَةِ والسَّوادِ بِبِيَاضٍ قَلِيلٍ، ونَصُّ الْمُحْكَمِ: بَيْنَ الغُبْرَةِ والْبَياضِ بِسَوادٍ قَلِيلٍ، كَلَوْنِ الرَّمادِ. ذِئْبٌ أطْحَلُ، قَالَ الشَّنْفَرَى: أَزَلُّ تَهادَاهُ التَّنَائِفُ أَطْحَل”.
( وفي مادة[(ع/ل/ل 30/54] قال: والعَلُّ: الَّذِي لَا خَيْرَ عِنْده، قَالَ الشَّنْفَرى:
وَلَسْتُ! بعَلٍّ شَرُّهُ دونَ خَيْرِه أَلَفَّ إِذا مَا رُعتَه اهْتاجَ أَعْزَلُ
(9) وفي مادة[(أ/ف//ل)30/188] قال: الأَفْكَلُ، كأَحْمَدَ: الرَّعْدَةُ تَعلو الإنسانَ، تكونُ من البردِ والخوفِ، وَلَا فِعلَ لَهُ… وَقَالَ الشَّنْفَرى:
دَعَسْتُ على غَطْشٍ وبَغْشٍ وصُحْبَتي سُعارٌ وإرْزيزٌ ووَجْرٌ وأَفْكَلُ
(10) وفي مادة[(ق/و/م)33/210] قال: “(و) أَقام دَرْأَه: أَزَالَ عِوَجَه)، قَالَ الشَّنْفَرَى:
أَقيمُوا بَنِي عَمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ فإِنّي إِلَى قَومٍ سِوَاكُم لأَمْيَلُ
هذا، إضافة إلى أن المعجميين القدامى(الأزهري، الجوهري، ابن منظور، الزبيدي) عُنُوا باسم الشنفرى ولقبه في مادتي(ش/ف/ر)، و(ش/ن/ف/ر)، كما ذكر الزبيدي، لقب (لامية العرب) في مادة(ي/هـ/م)… وهكذا استطاعت هذه السياحة في المعاجم العربية القديمة أن تقدم دليلاً علميًّا دقيقًا على صحة نسبة اللامية إلى الشنفرى.