حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الخطاب القصدي وآلياته التواصلية في أسلوب العطف (نموذج الإمتاع والمؤانسة) [الحلقة الرابعة] بقلم أ.د/ حسين كتانة

أستاذ البلاغة العربية في جامعة آل البيت - الأردن

ب- اتخاذه من خطاب العطف قصدا استدلاليا، وذلك لاعتماده على طلب الشاهد في ضبط المعاني. فموضوع معاني العطف يرتبط لغويا بمعاني حروفه(خصوصا حرف الواو) الذي يتميز بثراء استدلالي في استعماله والتداخل بين مستوياته، لذلك فإنه حقق في موضوع الإمتاع والمؤانسة سمة إيجابية للفعل الاستدلالي الحجاجي، الذي بواسطته تم التأثير على المستمع، وإقناعه في الأدوار الخطابية بما يدل عليه في الحجة من معنى مخصوص، كالاشتراك أو مطلق الجمع بين التركيبين. فيتعامل الخطاب القصدي للعطف مع المعنى في هذه الحروف على أنه استثمار لعلاقات متعددة تضم الملفوظ (Enoncé) مع ربطه بظروف المقال، وما يستتبع ذلك من تحديد لمجموعة من القرائن المعنوية المحددة لطبيعة الخطاب، أي الاهتمام بالمجال التداولي، وكذلك بموضوع الدلالة (Signification) الذي يرتبط بالجمل من حيث دراستها بلاغيا لتحديد صدقها وكذبها. ولا يخفى في هذا المجال، دور الجانب التداولي الذي يسعى إلى تحليل هذه الجمل، و عدم اختزال وصف قيمتها الإخبارية في وصفها الدلالي فقط، وإنما ليبرهن على الطريقة التي ستساهم فيها قرائن العلاقات بإعطاء اتجاه تداولي للجملة، وأيضا لفرض نتيجة على المخاطب عن طريق التحاور المتبادل في الكلام. فنجد صفة القصدية الموجهة للكلام تتحقق عندما يستهدف المتكلم النتيجة التي يسعى للتأثير على مخاطبه بغرضها  الذي أنجزه عن طريق التأويل، والقياس والنظر. ففي هذا المجال، تتدخل روابط الاستدلال الحجاجي التي تعتبر حروف المعاني نموذجا لها، لأن: “دورها الوظيفي هو توجيه الجمل الاستدلالية الحجاجية، وأيضا إدخال المبادئ العامة التي تجعل الحجاج ممكنا”[1].

وفي هذا السياق نجد الآلة الاستدلالية في الإمتاع والمؤانسة في موضوع العطف، تطلب الشاهد المنقول والمعقول الذي يفيد الحرف فيه معنى الاشتراك أوالقِران، وذلك في مواضيع متنوعة وفي سياقات لغوية مختلفة. ومما خصصه التوحيدي لهذه المناسبة، استشهاده بالعطف في الأحاديث النبوية والآثار من أقوال الصحابة، واعتبر ذلك وسيلة تأثيرية في حديث النساك ودرجة من درجات الإقناع، يقول :”..فقال :اجمع لي جزءا من رقائق العُبَّاد وكلامهم اللطيف الحلو، فإن مراميهم شريفة، وسرائرهم خالصة، ومواعظهم رادعة، وذاك-أظن- للدين الغالب عليهم، والتألُّه المؤثر فيهم؛ فالصدق مقرون بمنطقهم، والحق موصول بصدقهم، ولست أجد هذا المعنى في كلام الفلاسفة، وذاك -أظن أيضا- لخوضهم في حديث الطبائع والأفلاك والآثار وأحداث الزمان. قلت أفعل، فكتبت تمام ماتقدم به، ثم كتبت بعدُ ورقات في حديث النساك”[2].

        ففي الاستدلال بخطاب العطف فيما وصفه التوحيدي بحديث النساك، استعماله لمعنى الواو العاطفة يقترن بالمناسبات التي يقتضيها الخطاب، وتبعث على المؤانسة في إفادتها المعنى المطلوب، والتأثير المقصود. ومن وروائع العطف عنده في هذا المجال، استشهاده بأحاديث نبوية يرتبط فيها العطف بالاستثناء، وهو غرض من أغراض عطف المعاني التي يقصد من استعمالها تخصيص الظاهرة وتقريب صورتها من المستمع حتى تكون أكثر إمتاعا ومؤانسة. لذلك نجده أكثر توفيقا في استدرافه عيني الوزير ابن الفارض باستعماله منطق الاستدلال حينما أورد حديثا يقترن فيه العطف بالاستثناء، ثم أعقبه بآخر يعتمد مقدمتين ونتيجة، فجاءت صورته الاستدلالية مكتملة في نقل المعاني المعطوفة التي كانت أقرب صورة وأبلغ تأثيرا. يقول عن الحديث الأول:قال النبي (ص): “لايزداد الأمر إلا صعوبة، ولا الناس إلا اتباع هوى، حتى تقوم الساعة على شرار الخلق”. ثم أعقبه بحديث استدلالي آخر : “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء من أمتي”. فالنتيجة التي يسعى إليها التوحيدي في مؤانسته من خلال المعاني المعطوفة في الحديثين السابقين، هو بيان النتيجة التي قصدها الحديث وهي صفة المغترب أو الغريب التي يريد أن يؤنس بها.

 وقد  احتاج في بيان القصد من الخطاب، إسبال مزيد من المعاني المعطوفة، التي توضح صفته وتقرب صورته. ولذلك وضعه في صورة سؤال جدلي سأل التوحيدي من خلاله (ابن الجلاء الزاهد) بمكة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، بقوله: “ماصفة هذا الغريب؟ فأجاب في منتهى الإمتاع بقوله: “يا بني هو الذي يفر من مدينة إلى مدينة، ومن قُلّةٍ إلى قلّة، ومن بلد إلى بلد، ومن بر إلى بحر، ومن بحر إلى بر، حتى يسلَم، وأنى له السلامة مع هذه النيران التي قد طالت بالشرق و الغرب، وأتت على الحرث والنسل، فقدمت كل أفوه، وأسكتت كل ناطق، وحيرت كل لبيب، وأشرقت كل شارب، وأَمَرَّتْ كل طاعم؛ وإن الفكر في هذا الأمر لمختلس للعقل، وكارث للنفس، ومحرق للكبد.”[3]

 فكان لوقع هذه الصورة التقريبية التي نقلها التوحيدي في خطاب قصدي لمعاني عطفية متتالية أثر بالغ في نفس الوزير الذي بادره بعد الفراغ بقوله:”والله إنه لكذلك، وقد نال مني هذا الكلام وكبر عليَّ هذا الخطب والله المستعان”[4]. فلما دمعت عين الوزير ورق فؤاده استكملت الصورة الاستدلالية والبيانية جوانبها بالشاهد النبوي الثالث الذي جبر به خاطر الوزير في معاني معطوفة بقوله:  “روي عن النبي (ص) أنه قال: “حرِّمت النار على عين بكت من خشية الله، وحرِّمت النار على عين سهرت في سبيل الله، وحرمت النار على عين غضَّت عن محارم الله”.

        2-القياس والتعليل:  وهي مناسبة حاول التوحيدي أن يستعملها في خطاب العطف، معتمدا على المقارنات في الأوصاف المعطوفة التي تجعل أسلوبه يمحص المعاني في ربطها بالعلل، مع مقارنة الأشباه والنظائر، وتمييز الفروق المحتملة في الاصطلاحات المتداولة. وكأنه في هذه المناسبة يسعى إلى النفاذ إلى شيء مبهم وغامض، أو التطرق إلى ماله علاقة بالاستنباط كما هو في علمي الفلسفة وأصول الفقه. ومن نماذج ما نلحظه في أسلوبه لهذه المناسبة ما نقله بقوله: “..هذا النعت من قولي: إن الشريعة إلاهية، والفلسفة بشرية، أعني أن تلك بالوحي، وهذه بالعقل، أن تلك موثوق بها ومطمأن إليها، وهذه مشكوك فيها مضطرب عليها”[5].

فقد علل بخطاب العطف المعاني التي يظهر من خلالها توقف أحد الجزأين على تمييز الجزء الآخر، وهذا الأمر احتاج  منه أيضا إلى الوقوف على بيان الأشباه الجامعة بين مفهومي الشريعة والفلسفة، لذلك ينقل في قوله : “وقال أيضا: إنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفة بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدة لها؛ وإنما جمعنا أيضا بينهما لأن الشريعة عامة، والفلسفة خاصة، والعامة قوامها بالخاصة، كما أن الخاصة تمامها بالعامة، وهما متطابقان إحداهما على الأخرى، لأنها كالظِّهارة التي لابد لها من البطانة، وكالبطانة التي لابد لها من الظِّهارة”[6].

 وهذا المنحى في بيان الأشباه والفوارق، نجدها أيضا في تمييزه بين العلم والمال، اللذان أمتع بخصوصياتهما في معاني معطوفة ومسبوكة من أجل المؤانسة. “فالعلم مدبِّر، والمال مدبِّر، والعلم نفسي، والمال جسدي، والعلم أكثر خصوصية بالإنسان من المال، وآفات صاحب المال كثيرة وسريعة، لأنك لاترى عالما سُرق علمه وترك فقيرا منه؛ وقد رأيت جماعة سُرقت أموالهم ونهبت وأُخدت، وبقي أصحابها محتاجين لاحيلة لهم؛ والعلم يزكو على الإنفاق، ويصحب صاحبه على الإملاق؛ ويهدي إلى القناعة، ويُسبل الستر على الفاقة، وما هكذا المال.”[7]    

        ومن مظاهر التعليل بخطاب العطف في موضوع الإمتاع والمؤانسة، ما نلمسه من تعلق الألفاظ ب”المعنى التناسقي” الذي يفضي إلى مجموعة من النتائج التي يوردها معللة حسب مدارج البيان الذي تقتضيه نتيجة كل لفظة في مستواها التراتبي. “..وقِلة الهيبة رافعة للحشمة، وارتفاع الحشمة باعث على الوثبة، والوثبة غير مأمونة من الهلكة،…وما أكثر خجل الواثق، وما أقل حزم الوامق، وما أقل يقظة المائق”[8]. وهو نموذج من الأمثلة التي وردت في معاني العطف التي يظهر من خطابها المستويات التراتبية التي تحدد درجات كل من: الهيبة و الحشمة والوثبة، حسب مستوياتها التصاعدية أو التنازلية. وهذا المعطى له أبعاد نظرية في الدراسات اللسانية التداولية المعاصرة. ففي المثال السابق  فإن الأجزاء المعطوفة مرتبة حسب المعطى الآتي:  (أ ب ج د) :

(أ ): قلة الحشمة ، (ب): قلة الهيبة، (ج):باعث الوتبة، (د): (النتيجة : الهلاك)  فقد لزم عن كل قول ما يقع تحته، وتفضي كلها إلى المدلول؛ وهو النتيجة التي قصدها في أعلى السلم وهي (الهلاك). ففي التعبير عن مستويات العطف التي اعتمدها، لجأ إلى الترتيب التصاعدي في السلم حيث إن الدليل الذي يعلو الآخر يكون هو الأقوى دلالة من الذي هو تحته، وفي قاعدة كل سلم، نجد ثلاثة أطراف في الخطاب تم التمييز بينهما، بواسطة معاني العطف المستعملة. وقد أخذت مسألة مراتب الحجاج باعتبارها ظاهرة لغوية، صبغة خاصة مع انبعاث الدراسات اللسانية ومباحث فلسفة اللغة[9]، حيث تميزت بدراسة وظائف ومراتب الخطاب من خلال الألفاظ الدالة على معان تقبل التدرج في اتجاه واحد. ومن الذين اهتموا بهذه الدراسة الإناسي الأمريكي سابيير إدوارSAPIR [10] وكذلك الفيلسوف الأمريكي تشارلز كارتون CARTON[11] والفرنسي أوزفالد ديكرو DUCROT[12] وكذلك صاحبه أسكومبرASCONBRE[13]. واللساني المنطقي جيل فوكونيي FAUCONNIER[14]. فقد حاول ديكرو في هذه النظرية التي بدأ تشكيلها في نموذج (1973)، ثم تابعها في نموذج (1980)، أن يدرس مجموعة من معطيات هذه النظرية الحجاجية انطلاقا من ظاهرة النفي، ودور قوانين الخطاب في معالجة ظواهر(SCALAIRES) للصورة التي طورت مع FAUCONNIER. والتي تشير إلى أن الجملتين (أ) و(ب) تنتميان إلى حقل استدلالي حجاجي متشابه يعرف بالملفوظ (د) عندما يعتبر المتكلم أن (أ) و(ب)  براهين لصالح (د)[15].

 ونستخلص من هذه المعطيات في قصدية خطاب العطف؛ أن مفهوم الحقول الحجاجية مرتبط بالنتيجة من جهة، وبالمتكلم من جهة أخرى. فعندما ينتمي معنى جملتين أو أكثر إلى الحقل الاستدلالي الحجاجي نفسه يعني ذلك؛ أنهما يسعيان إلى نتيجة واحدة ويمثلان أيضا اختيار المتكلم حيث يختار منهما الدليل الأنسب. وهو مستوى نظري وتطبيقي نجد معطياته واضحة  في معاني العطف التي قدمها التوحيدي في مؤانسته.

=============

[1]-MOECHLER, Argumentation et conversation, Eléments pour une analyse pragmatique du discours, Paris, Hatier, 1985, p 58.                                                                             

[2]-الإمتاع، 2/213.

[3]-نفسه، 2/212

[4]-نفسه، 2/212.

[5]-نفسه، 2/174.

[6]-نفسه، 2/168.

[7]-نفسه، 2/192.

[8]-نفسه، 2/176.

[9]-اللسان والميزان لطه عبد الرحمان، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1998م، ص. 273- 274.

[10]– ينظر له، “التدرج : دراسة في التداوليات”

[11]-ينظر له  “في البنية العامة للوصف المعرفي للمعاني المبلغة باللغة الإنجليزية”

[12]-ينظرله “مراتب الحجاج”  و “العوامل الحجاجية والقصد الحجاجي”.

[13]-ينظر له “حتى ملك فرنسا أصلع” ، “كانت ذات مرة أميرة فيها من الحسن مثلما فيها من اللطف، 1و 2”

[14]-ينظر، المراتب التداولية والبنية المنطقية، الإستقطاب ومبدأ السلم، “ملاحظة حول الظواهر السلمية”.           

[15] – DUCROT, Les Echelles argumentatifs, Paris, Minuit, 1980, p 17     

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu