حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

منْ غَرَائِبِ القُرْآنِ لَفْظَتَا: (رِيع) و(مَصَانِع) بقلم أ.د/ محمد عبد العال

أستاذ أصول اللغة بكلية اللغة العربية بالقاهرة- جامعة الأزهر

كلمتا: (رِيع) و(مَصَانِع) مِنْ مَفَاريد القُرآن، حيثُ لمْ تَرِدَا فيه إلا مرَّةً واحدةً، في قوله (تعالى): “أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)” (سورة الشعراء)، وهما من الكلماتِ القُرآنيَّةِ التي يفهمُ الناسُ معناها خطأً، والسَّببُ في ذلك: انصرافُ الذِّهنِ عند سماعِها إلى المعنى المعروفِ المشْهورِ المُتداولِ بين النَّاسِ، فبمُجرَّدِ إطلاقِ كلمةِ (رِيع) ينصرفُ الذهنُ إلى الريع العقاري وهو الرِّبح أو الدخل الناجم عن الأرض وغيرها، كما أنَّ كلمة (مَصَانِعَ) ينصرفُ الذهنُ إلى مكان التَّصنيع: مصانع الحديد والصُّلب، مصانع السِّيراميك، مصانع الأطعمة والمشروبات والأغذية، وغيرها.

وهذا يُعرف في اللغة باسمِ (تخْصيص الدّلالة)، يعني: أن يشتهرَ اللفظُ بمعنًى معينٍ؛ حتى إنَّه بمجرَّدِ إطْلاقِ هذا اللفظِ لا ينصرفُ الذهن إلى غيره.

والآيتان المباركتان “أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)” وردتا في معرضِ الحديثِ عن قومِ عادٍ، وحتى نفهم المعنى الحقيقي للفظ (رِيع) و(مَصَانِع) تعالوْا بنا نأخذْ نُبذةً سريعةً عن قوم عادٍ:

هم قومٌ يُنسبون إلى جدِّهم: عاد بن إِرم بن سام بن نوح (عليه السَّلام)، وكانوا يسكنون مكانًا يُسمَّى بالأحقاف: “وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ”، ومعنى الْأَحْقَافِ: جمع حِقْف، وهي التِّلالُ العظيمةُ من الرِّمال، وهي شاهقةٌ عاليةٌ ولكنها لا تصلُ إلى ارتفاع الجبال، كما أنها تَفرقُ عن الجبال في تكويناتها، فبينما تتكون الجبالُ من الصخور الصُّلبة والجرانيت، تتكونُ الْأَحْقَافُ من الرمال.

وهو مكانٌ ما زالتْ آثارُهُ موجودةً إلى الآن، في المنطقةِ ما بين اليمنِ وعُمانَ جنوبَ الجزيرةِ العربيةِ، وتُعرفُ الآن باسم (الرَّبْع الخالي)، وهي منطقةٌ شاسعةٌ من الرمال تزيد على نصف مليون كيلو متر مربع، على حدود أربعِ دولٍ: السعودية والإمارات واليمن وعمان، وسُميت (الرَّبْع الخالي) أو (الرَّبْع الخراب) لخرابِها وخلوِّها تمامًا من أي مظاهرَ للحياةِ البشريةِ، حتى النباتاتِ يندرُ وجودُها فيها([1]).

وتبدأ قصةُ هؤلاء بعد طوفان نوح (عليه السلام)، حينما غِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ سفينة نوح عَلَى الْجُودِيِّ، ونزلت البقيةُ المؤمنةُ الصالحةُ من ذريته، وهم: أولادُهُ سام وحام ويافث، وأزواجُهُم وذراريهم، ولم يكن بينهم كافرٌ واحدٌ، ومرت السِّنون الطوالُ ليموتَ الآباءُ والأبناءُ، ويأتيَ الأحفادُ الذين نسُوا وصيةَ نوح ودعوتَه لعبادةِ الله الواحد الأحد، لتعود القصةُ نفسُها التي كانت في زمن نوح، قال الأحفاد: إننا لا نُريدُ أن ننسى آباءَنا وأجدادَنا الطيبينَ الصالحينَ، تعالوْا نصنعْ لهم تماثيلَ تذكرنا بهم، فنقتدي بهم ونقتفي آثارهم في العبادة والصلاح، ومع مرورِ الوقت يلعبُ الشيطانُ لُعبته الخبيثة الماكرة، فينسي الأحفادُ حقيقة هذا الأصنام، ويُلقي في نفوسهم أنها آلهةٌ معبودةٌ من دون الله.

وهنا أرسل الله (تعالى) إليهم نبيًّا من أنفسهم، ومن بني جلدتهم، يعرفُهُم ويعرفونه، فما جرَّبوا عليه كذبًا، جاء ينهاهم عن غيِّهم وعبادتهم الضالة، ويُعيدهم إلى عبادةِ اللهِ الواحدِ الأحد: “وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ” (الأعراف: 65)

فما كان منهم إلا التطاولُ عليه بالسبِّ والشتمِ:

“قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ” (الأعراف: 66)

اتَّهموه بالسفهِ والجنونِ وخفةِ العقلِ، وادَّعوْا أنه ما أصابه ذلك إلا بسببِ تطاولِهِ على آلهتهم المزعومة: “إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ” (هود: 54)

فبدأ يذكرهم بنعم الله (تعالى) عليهم وأفضاله:

فقد بسط الله (تعالى) لهذه الأمة قوةً في أجسادِهِم، وضخامةً في أبدانِهِم، كما أعطاهم خلافةَ الأرض من بعد قوم نوح: “وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأعراف: 69)

وقد مكَّنتهم هذه القوةُ الجسديةُ، والضخامةُ البنيويةُ من عدة أمور:

أولًا: أنهم كانوا يبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً يعْبَثُونَ، يعني:

أنَّهم كَانُوا يَهْتَدُونَ بِالنُّجُومِ إِذَا سَافَرُوا، فَبَنَوْا عَلَى الطَّرِيقِ أَمْثَالًا طِوَالًا، تُشبهُ الأبراجَ العاليةَ، ليهتدُوا بها في سفرهم، ولتُمكنهم من الوصول في سهولةٍ ويسرٍ، قَالَه عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ، ويؤيده قولُهُ تعالى: “آيَةً” ومعناها العَلَامَة([2]).

ووجهُ العبث في بنائها أنهم يُغالُون في الارتفاع بها مُفاخرةً، فهم يَعبثُون، ولا يكتفُون بقدر الحاجة، وكلُّ ما يزيدُ عن قدرِ الحاجةِ يكون عبثًا، وكل ما يدفعُ إلى البطر فهو عبثٌ، أيا كان نوعُهُ([3]).

وَقيل: إن الرِّيع هو أبراجُ الْحَمَامِ تكُونُ فِي الصَّحْرَاءِ، فكانوا يصنعون أَبْنِيَةَ الْحَمَامِ وَبُرُوجَهَا فِي الصَّحْرَاءِ، كانوا يبنونها رفاهيةً.

وقيل: الريعُ هي الأبراجُ العاليةُ، كانوا يبنُونها في الصحراء ويختبئُون فيها؛ ليُضايقوا المُسافرين، ويعبثُوا بهم، من باب السُّخرية والاستهزاء بهم، ويدل عليه قوله تعالى: “تَعْبَثُونَ”([4]).

وطبعًا، ما ساعدهم على بناء ذلك إلا أجسادُهُم الضخمةُ، وبنيتُهُمُ القويةُ.

ثانيًا: “وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ”، وجاء في معنى (المصانع) عدةُ أقوال:

أنَّها الحُصُونُ المُشَيَّدَة المنيعةُ، كانوا يبنُونها ليحتمُوا بها، ويتحصَّنوا فيها من أعدائهم، وَيدل عليه قَوْلُ الشَّاعِرِ:

تَرَكْنَا دِيَارَهُمْ مِنْهُمْ قِفَارًا … وَهَدَّمْنَا الْمَصَانِعَ وَالْبُرُوجَا([5]).

وقيل: (المصانع) هي القصورُ الفخمةُ الأنيقةُ، فهم لرفاهيتهم وما وهبهم الله (تعالى) من أجسادٍ وبنيانٍ، لم يقتصروا على حياةِ الخيامِ، وإنما راحوا يتأنَّقون ببناء القصور يسكنون فيها، وهو يشبه في زماننا من يوسعُ اللهُ (تعالى) عليه فيتركُ شقته ويبني (فيلّا) أو (قصرًا) أو (سرايا) في مكانٍ راقٍ.

فالمصانع معناها: البيوتُ المصنوعةُ صناعةً مُحكمةً تبقى على الأزمان وتُناطحُ الدهر، فهي القصورُ المُجوَّدُ بناؤها، المُزخْرفُ طلاؤُها، وكأنَّهم يرجون أن تكون جنَّتهم التي يخلُدُون فيها “لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ”([6]).

ومن المعلومِ أنَّ القصور والفلل والسرايات يكون فيها من الإتقانِ والتجويدِ، والزخرفةِ والزينةِ والأُبَّهةِ ما ليس في غيرِها من البيوتِ العاديةِ، ممَّا يُحتاج معه أن يكون القائم على صناعتها وبنائها صُنَّاعٌ مهرةٌ مُجيدون مُتقنون.

وتأكيدًا لذلك: فإن العرب تقول للعامل الحاذق المجيد الصنع: (صَنَعٌ) بفتحتين، وللعاملة الحاذقة المجيدة: (صَنَاعٌ)، والجمع (صُنَّاع).

ونحن نقول في عاميتنا المصرية للعامل الماهر المتقن عمله: (صَنَايْعي).

وقيل: (المصانع) هي خزَّاناتُ الْمَياه الضخمةُ، وَاحِدَتُهَا مُصْنَعَةٌ وَمَصْنَعٌ، وَيدل عليه قَوْلُ لَبِيدٍ:

بَلِينَا وَمَا تَبْلَى النُّجُومُ الطَّوَالِعُ … وَتَبْقَى الجبالُ بعدنا والمصانعُ([7]).

وواضحٌ أنهم في أمورهم الحياتية كانوا يُبدعون ويتألَّقُون، بينما هم في عبادة ربهم “فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ”، فقد بلغوا من الحضارة الصناعية مبلغًا يذكر لاتخاذِ القصورِ والحصونِ وخزاناتِ المياهِ، دليلُ ذلك: أنهم كانوا يعملون حسابًا لغدهم، وأن مياه الأمطار التي يعيشون عليها قد تنقطعُ فيهلَكُون، فكانوا يصنعُون تلك الخزَّاناتِ الضخمةِ، فيما يشبه في زماننا (صهاريج المياه) يحتفظون فيها بمياهِ الأمطارِ، بدل أن تُهدر في الصحراء، وليت لنا رُبُعَ عقولهم، فنصنعُ مثل صنيعهم.

قال الْجَوْهَرِيُّ: الْمُصْنَعَةُ كَالْحَوْضِ يَجْتَمِعُ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ([8]).

وجديرٌ بالذكر:

أن هذه اللفظةَ ممَّا استخدمه بهذا المعنى العلامةُ المؤرخُ الشيخُ تقيُّ الدين المقريزيُّ (رحمه الله) (ت 845هـ)، فقد ذكر في كتابه الماتع الموسوم بـ (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار), أنَّ الظاهر بيبرس (رحمهُ اللهُ وطيَّب ثراهُ) كان قد اتّخذ مصنعًا لتخزين المياه بالقُرب من القلعة في ميدان الرّميلة (أمام قلعة الجبل ويعرف بميدان صلاح الدين حاليًا)، وأنَّ النَّاصر محمد بن قلاوون كان قد أنشأ أربع سواقٍ في سنة 712 هـ لنقل الماء من هذا المصنع إلى القلعة؛ لتخزينه في المكان المُعدِّ له.

يقول تحت عنوان (ذكر المياه التي بقلعة الجبل): “وجميعُ مياه القلعة من ماء النيل، تُنقلُ من موضعٍ إلى موضعٍ حتى تمرَّ في جميع ما يحتاج إليه بالقلعة، وقد اعتنى الملوكُ بعمل السَّواقي التي تنقل الماء من بحرِ النيلِ إلى القلعةِ عنايةً عظيمةً، فأنشأ الملكُ الناصرُ محمدُ بنُ قلاوون في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أربعَ سواقٍ على بحر النيل، تنقل الماء إلى السور، ثم من السور إلى القلعة، وعمل نقَّالة من (المصنع) الذي عمله الظاهرُ بيبرس بجوار زاوية تقيّ الدين رجب، التي بالرميلة تحت القلعة إلى بئر الإصطبل”([9]).

والمصنعُ هنا هو خزَّانٌ للمياه في مكانٍ عُرف حديثًا بسكّة المَحْجَر، وقديمًا بالرّميلة.

وَاللهُ (تعالى) أَعْلَى وأَعْلَمُ.

=======================

([1]) ينظر: موقع ويكبيديا  https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A8%D8%B9_%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D9%84%D9%8A

([2]) ينظر: تفسير القرطبي: 13/123.

([3]) ينظر: زهرة التفاسير: 10/5384.

([4]) ينظر: تفسير القرطبي: 13/123.

([5]) ينظر: تفسير القرطبي: 13/123، ولم أعثر على البيت في ديوان لبيد.

([6]) ينظر: زهرة التفاسير: 10/5384.

([7]) ينظر: تفسير القرطبي: 13/123، والبيت للبيد بن ربيعة العامري في ديوانه: ص 56، في رثاء أخيه أربد.

([8]) ينظر: الصحاح (ص ن ع): 3/ 1246.

([9]) ينظر: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي: 3/400.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu