حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

التجديد في فكر الإمام الطيب [الحلقة الثالثة] بقلم أ.د/ مصطفى فاروق عبد العليم

أستاذ الأدب والنقد في جامعة الأزهر

“التجديد الدائم في التراث هو المنوط به بقاء الإسلام دينًا حيًّا متحركًا، ينشر العدل والرحمة والمساواة بين الناس، والتراث حين يتخذ من “التجديد” أداةً أو أسلوبًا يعبِّر به عن نفسه يشبه التيار الدافق، والنهر السيال الذي لا يكف لحظة عن الجريان، أو هكذا يجب أن يكون، وإلا تحوَّل إلى ما يشبه ماءً راكدًا آسنًا يضرُّ أكثر مما يفيد…”

            الحلقة السابعة العاشرة من برنامج “الإمام _الطيب” 2021/ 1442ه

الوسائل اللغويّة:

    تُعد الوسائل اللغويّة من أهم الأدوات في عملية الإقناع، وقد استعان بها فضيلة الإمام أثناء طرح خطابه؛ بغية إكسابه طاقة حِجَاجيّة، ونهتم في هذه الوسيلة بالاختيارات اللفظيّة والتركيبيّة التي يعمد إليها الأديب لغاية حِجَاجية، فيحل اللفظ المحدد مكانًا معينًا؛ ليقود المتلقي إلى غاية ما، ويعتمد تركيبًا دون آخر؛ ليقنعه بأمر ذي علاقة وطيدة بالخطاب في كليته… (الدريدي، 2011، 102). وتُعد هذه الأدوات “بمثابة قوالب تنظّم العلاقات بين الحِجَج والنتائج، أو تُعين المرسِل على تقديم حججه في الهيكل الذي يناسب الخطاب” (الشهري،2004، 477).

    لا مناص في دراستنا الحِجَاجيّة -هذه- من الاهتمام بالجانب التأثيري للغة؛ نظرًا لدوره الفعّال في العملّية التواصليّة؛ بغية الإقناع، وهذا التأثير اللغوي يبرز عَبْرَ الصيغ اللغويّة المتعددة، ومن أهمها: أفعال الكلام التي تؤدي وظيفة الإقناع عَبْرَ قوتها الإنجازيّة.

1- أفعال الكلام

    أفعال الكلام، أو ما يُطلق عليها -أحيانًا-الأفعال اللغويّة، هي مجال مهم من مجالات البحث اللساني التداوليّ، ويرجع الفضل في تنظيره إلى الإنجليزي (أوستين)، وتطوره على يد تلميذه (سيرل)، ونعني بأفعال الكلام “كل منطوق ينهض على نظام شكلي دلالي إنجازي تأثيري.” (صحراوي، 2005، 40).  

   سوف نعتمد في تحليلنا للأفعال الكلاميّة في (برنامج الإمام الطيب- رمضان ٢٠٢١م / ١٤٤٢ هـ) على اقتراح (سيرل)؛ إذ إنّه أكثر دقة ووضوحًا من أنموذج أستاذه (أوستين)، وسنحاول من خلاله إبراز الدور الذي تقوم به الأفعال الكلاميّة في إحداث الإقناع والتأثير.

   هذا؛ وقد حدّد (سيرل) خمسة أصناف للأفعال الكلاميّة، هي: (الصراف، 2010، 60-63) (الأخبار، والتوجيهات، والالتزاميّات، والتّعبيريّات، والإعلانيّات).

أ‌- الأخبار (الإخباريات) (Assersifs): تعني تبليغ الخبر؛ وهي تمثيل للواقع، وتسمى أيضًا بالتأكيدات، أو الأفعال الحكميّة، أي إنّه ينقل الواقع كما هو، ويندرج في هذا القسم الأفعال الدّالة على التوضيح كلها، وأغلب الأفعال الدّالة على الأحكام. مثل: نُعبّر عن رأي الأمة كافة.

ب‌- التوجيهات -الأوامر (Directifs): تحمل المخاطب على فعل معين، وتعني الفعل اللّغويّ الذي يدفع السامع إلى القيام بفعل معيّن؛ إذ تقوم على محاولة توجيه المخاطب إلى سلوك ما في المستقبل، وشرطها الإرادة والرغبة الصادقة، وتمثلها صيغ الاستفهام، والأمر، والنهي، والرجاء، والنصح، والتشجيع، والدعوة، والإذن، والاستفسار، والسؤال، والتحدي، وتدخل كثير من أفعال القرار في هذا القسم كما تندرج فيه ما أسماها (أوستين) السلوكيّات التي تعبّر عن ردّ فعل سلوك الآخرين. مثل: لا أسمح لك.

ج‌- الالتزامات (أفعال التعهد) (Commissifs): إذ يلتزم المتكلم بفعل شيء معين، وتعني الفعل اللّغويّ الّذي يلزم المتكلّم بفعلٍ أو الالتزام بشيء في المستقبل عن قصد وإخلاص، والسمة المميزة لهذا النوع عن سابقه، أنه لا يبتغي التأثير في السامع، ومن أمثلته: أضمن، أقسم، أتعهد، أتعاقد على، سألتزم بما هو مكتوب.

د- التّعبيريّات (التصريحات) (Expressifs): تعبّر عن حالة، مع شرط صدقها، وتعني الفعل اللغويّ الذي يعبّر من خلاله المتكلم عن سلوكه ومشاعره تجاه الغرض، فهي التعبير عن مواقف نفسيّة تعبيرًا مخلصًا، وتندرج تحتها أفعال الشكر، والتهنئة، والتعزيّة، والاعتذار، والتمني، والندم، والمواساة، والحسرة، والندم، والشوق، والكره، وإظهار القوة والضعف، والحزن، والترحيب، مثل: أشكرك سيدي الرئيس….

ه- الإعلانات-الإنجازيات – الإدلائيّات (Declarations): وتكون حين التلفظ ذاته، وقوام هذه الأفعال التعيين، فيحدث تطابق بين مقتضاها مع العالم الخارجي، ما يعني قيام هذا النوع على وضع غير لساني من شأنه تغيير الحالة القائمة إلى حالة مستجدة. وبهذا يمكن أن يكون اللفظ موقعًا لفعل معين، وتعني الفعل اللّغويّ الّذي يغيّر الواقع يما يتوافق مع المحتوى (الحدث) للإعلان. ومن أمثلته ألفاظ البيع والشراء، والزواج والطلاق، والقذف والتنازل، والإقرار…

    من خلال حلقات البرنامج الرمضانيّ لفضيلة الإمام أ.د/ الطيب، يمكننا الوقوف على ما يلي فيما يخص أفعال الكلام:

   – مثّلت الإخباريات حضورًا واسعًا في حلقات البرنامج، وهو أمر طبعي؛ نظرًا لأن عمليّة التواصل تقوم على الإخبار، ولأن الإخباريّات هي التي تؤدي إلى إقامة الحجة والبرهان، ومن ثمَّ يتحقق قانون الإفادة…

   لا يسعنا أن نقف على الإخباريات كافة، التي وردت في حلقات البرنامج، نظرًا لطبيعة الدراسة وتعدد عناصرها، وسنكتفي بإلقاء الضوء على بعضها.

   نجد الإخباريات -التأكيدات- في حلقات البرنامج الرمضانيّ في هذه الجمل القصيرة المتعاقبة، التي يسعى عَبرها فضيلة الإمام إلى إثبات حجته بطريقة تفيد تقرير الحقائق، نحو: “(الوسطية) هي أهم خصائص رسالةِ الإسلامِ، وأَولاها بالتوضيح والبيان، ومن أجلِها سُمِّيَ الإسلامُ: (دينَ الوسطيةِ)، كما سُمِّيَ المسلمون بالأمَّةِ (الوسَط).”

    كلها إخباريات تقريرية تُبرز وسطية الإسلام، فالإسلام دين الوسطية، والمسلمون أمة الوسط، أي الاعتدال في كلّ أمور الحياة بوصفها موقفًا فكريًا وأخلاقياً وسلوكياً…

    هكذا يُقنع فضيلة الإمام السامع بوسطية الإسلام من الحلقة الأولى من حلقات البرنامج؛ إذ وضّح فيها أنّ هدفه إثبات واقع وصفه كما هو، والغرض الإنجازي منها نقل هذا الواقع بأمانة، وإبراز حالته النفسية الموقنة بهذا الفعل، وأحسب أنّ فضيلة الإمام قد وصل إلى مبتغاه عن طريق قصده فيما أراد قوله؛ حيث إنّه أثبت وسطيّة الإسلام، ودفع القول بأنه دين دماءٍ وحروبٍ وتضييقٍ على مُعتنقِيه.

     يواصل فضيلة الإمام في حلقات البرنامج الاعتماد على الإخباريات أو ما تسمى بالتأكيدات، ففي الحلقة السادسة من البرنامج، يقول: “جوهر الشريعة الإسلامية ولبها هو: اليسر والسماحة، ورفع الحرج والمشقة…”

   يظل فضيلة الإمام يتكئ إلى الإخباريات؛ بغية الدفاع عن الإسلام. من ثمَّ؛ يرغب في إقناع السامعين من مسلمين، وغيرهم بيسر الإسلام وسماحته، والرد على كل من أساء إلى الإسلام، وإبرازه في صورة تنافي حقيقته، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بهذه الإخباريات. ولا يخفي ما في هذه الأخبار من تأكيد معنوي، فالتعبير بها يجعل الخطاب من المسلمات التي لا تقبل الشك، ولا المناقشة.

فنجد: وسطية الإسلام، وجوهر الشريعة، واليسر والسماحة، ورفع الحرج.

     في الحلقة العاشرة من البرنامج الرمضانيّ نجد فضيلة الإمام جاء بالأفعال الإخبارية بصيغة الماضي (أصاب، حدث، ظهر، اشتعل، أصبح، استطاع) فيقول فضيلته “المتدبر فيما أصابنا في قرننا هذا، سيجدُ أن ما حدث هو استغلال لخلافات بين ‏المسلمين موجودة منذ أن ظهر الإسلام، ولكن فجأة اشتعلت هذه الخلافات، وأصبح كل أتباع مذهب يكفر ويريد أن ‏يريق دماء المذهب الآخر، وبسبب الخلاف استطاع أعداء الإسلام أن ‏ينفُذُوا إلى الوحدة الإسلامية ويضربوها في مقتل.”

    هنا نقل فضيلة الإمام الواقع إلى المتلقي بصورة صادقة، ووظّف الفعل الماضي، الذي جاء ملائمًا لحالة الإمام النفسية المتألمة؛ بسبب هذا التناحر، كذلك ناسب الإخبار بالفعل الماضي الحدث المنقول (لخلافات بين ‏المسلمين موجودة منذ أن ظهر الإسلام…)   

   الغرض العام من هذا التركيب هو التقرير؛ لنقل صورة حية لواقع المسلمين منذ الظهور، والكشف عن أسباب الفتنة، التي هي بيد أعداء الإسلام، ثم يبرز فضيلته عبر الفعل المضارع في لفظه، الماضي في معناه ما وصل إليه أعداء الإسلام “وبسبب الخلاف استطاع أعداء الإسلام أن ‏ينفُذُوا إلى الوحدة الإسلامية ويضربوها في مقتل.”

   فنجد: (ينفُذُوا، ويضربوها) فالفعل المضارع أفاد المضي، وهو معهود في اللغة، للتعبير عن الحالة النفسية.

   هكذا نوّع فضيلة الإمام إخباره -تأكيده- بين الفعل الماضي والمضارع؛ لاستحضار الصورة في الذهن.

    في الحلقة السابعة عشرة يقول فضيلته معتمدًا على أسلوب الإخباريات -التأكيدات- “حين يتخذ من (التجديد) أداةً أو أسلوبًا يعبِّر به عن نفسه يشبه التيار الدافق، والنهر السيال الذي لا يكف لحظة عن الجريان) الفعل الكلامي الإخباري، وضح فيه فضيلة الإمام أنّ الهدف إثبات واقع التجديد، والغرض الإنجازي نقل هذا الواقع إلى المتلقي، مستعينًا فضيلته في إقناع السامع بالصورة التشبيهية (يشبه التيار الدافق) والأفعال المضارعة التي تستحضر الصورة في الذهن سواء أكانت مثبتة (يتخذ، يعبِّر، يشبه) أم كانت منفية (لا يكف) وكلها لإبراز حالة فضيلة الإمام النفسية الساعية إلى التجديد، والغرض الإنجازي هنا التقرير، ففضيلته نقل الواقع كما هو، وفي ذلك إشارة إلى إمكانية التجديد، وضرورته…

    كذلك نجد (النفي) إذ يدخل ضمن الإخباريات، وهو وسيلة للنقض، وتفنيد مزاعم الخصم، وسلب مصداقيته، ففي الحلقة السادسة عشرة في حديث فضيلة الإمام عن الأسباب التي عرقلت التجديد يعتمد على أسلوب النفي؛ إذ يقول فضيلته: “من أهمِّ العوامل التي شكّلت ما يشبه “العوائق” على طريق التجديدِ عدمُ التفرقة بين ما هو ثابت في الدين وما هو متغيِّر، وأن صيغة معينة، من الصيغ الفقهيَّة في العصور الخوالي، اكتسبت شرعيَّة الثبوت وشرعيَّة استبعاد الصيغ الأخرى التي تحقق ذات المقصد، لا لشيءٍ إلَّا لأن هذه الصيغة كانت على صورة معينة استحسنها نظام اجتماعي معين…”

   فنجد (عدمُ التفرقة، لا لشيءٍ) فيه دفع توهم السامع الذي لا يفرّق بين ما هو ثابت في الدين، وما هو متغيِّر، ولعله السبب الأهم في عرقلة تجديد الخطاب الديني. كل ذلك يناسب موقف الدفاع عن وسطية الإسلام، وتسامحه، ويسوّغ للمضي قدمًا في تجديد الخطاب الدينيّ.

     في الحلقة الخامسة والعشرين، عندما تناول فضيلة الإمام الجدل الفقهي المتعلق بعدد من القضايا المعاصرة، كان للمرأة النصيب الأكبر منها فيقول معتمدًا -أيضًا- على أسلوب النفي:

“والطلاق التعسفي بغير سبب معتبر شرعًا حرام، وجريمة أخلاقية‏، ولا وجود لـ(بيت الطاعة) في الإسلام، ولا يحق للولي منع تزويج المرأة برجل كفء ترضاه دون سبب مقبول”.

فنجد: (بغير سبب، ولا وجود، ولا يحق للولي منع تزويج، دون سبب مقبول) …

     كلها صيغ أخبار منفية، تؤكد على نقل واقع، وهو سماحة الإسلام ووسطيته، والقدرة على التجديد في الخطاب الدينيّ دون المس بثوابت هذا الدين الحنيف.

     المرأة كيان مستقل، لها حقوق أكد عليها الإسلام، فجرّم طلاق المرأة بغير علة، وأثبت لها حقها في اختيار الزوج الكفء، وأنّ ما يسمى ببيت الطاعة لا أصل له في الدين الإسلاميّ.

    إنّ جمل فضيلة الإمام الإخبارية المتتابعة القصيرة، أبرزت موقف الأزهر الشريف الحاسم بخصوص عدد من القضايا المعاصرة التي تخص المرأة، وانحياز الأزهر إليها.

    هكذا تنوّعت معاني الإخباريات في حلقات البرنامج بين معانٍ مباشرة، ومعانٍ غير مباشرة، نقلت واقعًا تؤمن به نفس فضيلة الإمام، وتحاول إقناع المتلقي به، سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم، والغرض الإنجازي لهذه الإخباريات، هو تقرير واقع، فكان الحجاج؛ بغية الإقناع.

  إلى الملتقى في حلقات قادمة نواصل فيها الحديث عن التجديد في فكر الإمام الطيب.

 

 

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu