حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الخطاب القصدي وآلياته التواصلية في أسلوب العطف (نموذج الإمتاع والمؤانسة) [الحلقة الخامسة] بقلم أ.د/ حسين كتانة

أستاذ البلاغة العربية في جامعة آل البيت - الأردن

3.عطف الأضداد مع توارد الأوصاف : وتمثل هذه المناسبة في خطاب معاني العطف في مؤانسة التوحيدي، النزعة الوجدانية التي كانت أشد إمتاعا للخيال، وأكثر علوقا بالنفس لتعلقها بالحس وارتباطها بالحياة والعواطف الإنسانية الخالدة التي تتجاوب أصداؤها في نفوس البشر جميعا[1]. كما لها علاقة بالمعاناة الشخصية التي أشعر بها خطابه كل قارئ أو أنيس، وكل متأمل في الأمثال المضروبة والمعاني المستورة، التي تحكي عنت الزمان والرجال، كما تحكي تبرحه بطول الغربة، وشظف العيش، وكلب الزمان، وعجف المال، وجفاء الأهل وسوء الحال[2]. وهذه الصورة نجدها متميزة في الخطاب القصدي في النثر العربي، وذلك أنها تحتاج إلى قوة التعبير في رصد المعاني وتتبع مواقعها في نفس الآخر، “فلم يكتب في النثر العربي بعد أبي حيان ما هو أسهل وأقوى وأشد تعبيرا عن شخصية صاحبه مما كتب أبوحيان”[3]. وتأخذ المعاني المعطوفة في التعبير عن الأضداد عند التوحيدي عدة مواقف منها:

         أ-عطف أسماء الصفات المتناقضة: وقد ضمن فيها مجموعة من المعاني المكتنزة في عبارات وجيزة يربطها عطف متلاحق في أوصاف متواردة: “وقد تقرر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة، أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضد أو شبيه بالضد كالحياة والموت، والنوم واليقظة، والحسن والقبيح، والصواب والخطأ، والخير والشر، والرجاء والخوف، والعدل والجور، والشجاعة والجبن، والسخاء والبخل، والحلم والسفه، والطيش والوقار، والعلم والجهل، والمعرفة والنكرة، والعقل والحمق،… والمدح والذم …ولعل هذه الصفات بلا آخر ولا انقطاع”[4]. فهذا النوع من الخطاب في العطف، لايخفي خصوبة المنحى الوجداني الذي عبر عنه التوحيدي في مواقف مختلفة تثير أبعادا نظرية لفلسفة أخلاقية ملحوظة. إنه الاهتمام بقضايا النفس والعقل، والزمان والمكان، والعالمين العلوي والسفلي، والخليقة والمعاد، والخير والشر، والفضيلة والرديلة، والصداقة والصديق…، وقد استعان التوحيدي بخطاب العطف في بيان مراتب الأخلاق بما اطمأن إليه وجدانه من المعاني المعطوفة التي رأى فيها تحديدا مناسبا لإدراك مفاهيمها وبيان مراتبها “على أن مراتب هذه الأخلاق مختلفة، فيبعد أن يعمها حد واحد، وإنما اختلفت منازلها لأنها تارة تصفو بقوة النفس الناطقة، وتارة تكدر بالقوتين الأخريين، ولبعضهما حِدّة بالزيادة، ولبعضها كلّة بالنقص، فلم يكن التحديد يفصل كل ذلك..”[5] ، ولعلنا ندرك هذه المراتب الخلقية في أضداد بعض المصطلحات المستعملة  كالحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة، التي وضح من خلال مراتبها بمعاني العطف جملة من الأوصاف الخلقية المتواردة:

-الإنسان إذا غلبت عليه الحرارة يكون: شجاعا نزالا ملتهبا، سريع الحركة والغضب قليل الحقد، زكي الخاطر، حسن الإدراك.

 -إذا غلبت عليه البرودة يكون: بليدا، غليظ الطباع، ثقيل الروح.

-إذا غلبت عليه الرطوبة يكون: لين الجانب، سمح النفس، سهل التقبل كثير النسيان.

-إذا غلبت عليه اليبوسة يكون: صابرا، ثابت الرأي، صعب القبول يضبط ويحتد، ويمسك ويبخل… وفي هذا بدائع لاتكاد تنتهي وعجائب لاتنقضي.[6]        

        ب- عطف الأفعال المتناقضة: وهي مجموعة من العبارات المعطوفة التي ينتظم فيها تناقض الزمن بتناقض الصفات التي يحملها، خصوصا وأن أغلبها يحمل الزمن الماضي لأن صاحبها في حال إمتاع ومؤانسة، تعتمد في أغلب الأحيان المنحى الحكائي والسردي. “..أنه لما فقد الملك السعيد -رضي الله عنه- بالأمس حدث هذا كله، فإنه كان قد زمَّ وخطم، وجبر وحطم، وأسا وجرح، ومنع ومنح، وأورد وأصدر، وأظهر وستر، وسهَّل ووعَّر، ووعد وتوَعَّد، وأنحس وأسعد”[7]. والذي يهتم بسيرة التوحيدي يجد أن توارد الأضداد له تعلق بنفسيته اتجاه الآخر، وذلك أن وقع عباراته يشير إلى مصدر الإخفاقات  التي تعرض لها الأديب كما هو الشأن عند المنعوتين بالشؤم في التراث الأدبي.

ولعل المتلقي الممثل في شخص ابن عباد في علاقته بالتوحيدي له شأن في خطاب أضداد معاني عطفه، وما يقصده من وأوصاف. وهذا الحضور نلمس أبعاده في تفكير الرجل وتصوره  لذاته التي ينعتها بالاعتدال في الأحكام والاتزان في كل حال. وهو الأمر الذي يبرر به النعوت القدحية التي أوردها في أضداد عطفه، وكأنه من نقاد الأخلاق وجهابذة الأحوال يقول:”إني رجل مظلوم من جهته، وعاتب عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وإن وصفتُه أَرْبَيْتُ منتصفا، وانتصفت منه مسرفا، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب، أو عاريا منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق؛ على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نَفَسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير”[8].

فلاشك أن اللفظ الطويل والقصير الذي أشار إليه التوحيدي في خطاب العطف في نهاية هذا النص، يشير إلى انسباك مواهبه الأسلوبية في التعبير الطويل والقصير. كما أن معاني العطف التي استعملها في بيان المناسبات المختلفة، قد تأتي تارة في عطف قصير بعبارات وجيزة واضحة، وقد تأتي أيضا في عطف طويل يكلف القارئ والسامع ملاحقة المعاني التي يروم الاستئناس بها. وفي الحالتين؛ تصاغ الأفكار تارة في حكم شعرية، أو أمثال نثرية مضروبة تزيد الكلام إمتاعا، والحجة إقناعا.    

================

[1]-ينظر، رسائل أبي حيان التوحيدي تحقيق ونشر، إبراهيم الكيلاني، دار طلاس للترجمة والنشر، ص.59.

[2]-ينظر، معجم الأدباء لياقوت الرومي، القاهرة، 1936، 15/38.

[3]-الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، لآدم متز، ترجمة أبوريدة، القاهرة، 1941، 1/416.

[4]– الإمتاع والمؤانسة، 1/101.

[5]-انفسه، 1/111.

[6]-نفسه، 1/114.

[7]-نفسه، 2/237.

[8]-نفسه، 1/45.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu