يؤمن ابن جني بقيمة الأصوات التعبيرية الخاصة، وهو يعتقد أن كل حرف يعبر عن غرض، وأن الكلمة العربية مركبة من مادة صوتية يمكن حل أجزائها إلى مجموعة من الأحرف الدوال المعبرة، فكل حرف منها يستقل ببيان معنى خاص ما دام يستقل بإحداث صوت معين، فالحرف الواحد عنده له صدى وإيقاع أو قيمة تعبيرية سواء كان في أول الكلمة، أو في وسطها، أو في آخرها([1])، وتتضح هذه القيمة من خلال التصريح بوجودها أو التطبيق العملي من خلال المقارنة التي عقدها بين ألفاظ تتحد في أصواتها، عدا صوت واحد اختلفت معانيها بسببه، بحيث يجمعها معنى عام، وتتمايز اللفظتان في القوة والضعف بحسْب قوة الحرف وضعفه، حيث قال: « أما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث, فباب عظيم واسع, ونهج متلئب عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبَّر بها عنها, فيعدلونها بها ويحتذونها عليها, وذلك أكثر مما نقدر6، وأضعاف ما نستشعر»([2]).
ومن الألفاظ التي ذكرها ابن جني تدليلًا لذلك اللفظتان: قضم وخضم، حيث قال: «الخضم: لأكل الرطب، كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب, والقضم: للصلب اليابس نحو: قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك، وفي الخبر: قد يدرك الخضم بالقضم, أي: قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف.. فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس، حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث»([3]).
وهنا يذكر ابن جني أن الخضم والقضم معناهما الأكل، إلا أن الخضم لأكل الرطب، والقضم لأكل اليابس، وبيّن أن سبب ذلك يكمن في القيمة التعبيرية للصوت قوة وضعفًا.
وقد استدل بهذا المثال كثير من علماء اللغة المحدثين على القيمة التعبيرية للصوت، ونقلوا تعليل ابن جني دون زيادة أو نقص، سوى شرح لعباراته مع وضوحها([4]).
وعند الرجوع إلى بعض كتب اللغة والمعجمات اللغوية تجد أن هذا التعليل برخاوة الخاء فتناسب أكل الرطب، وصلابة القاف فتناسب أكل اليابس لا ينسجم مع الدلالات المعجمية الأخرى لكلمتي: قضم وخضم .
فقد قال الخليل: «الخضم: الأكل والمضغ بأقصى الأضراس، والخضم : شدة الأكل في رغد، والخضم : نحو أكل القثاء ونحوه، وهو الأكل بجميع الفم، وقولهم : قد يبلغ الخضم بالقضم : أي قد يبلغ المبلغ الكبير بالشيء القليل»([5])، وقد ذكر: أن القضم: «أكل كل شيء دون الخضم، والحمار يقضم الشعير، وقد اقضمته فقضم قضمًا، وفي الحديث: « اخضموا فسوف نقضم »([6])أي: كلوا فسوف نجتزئ بالقليل»([7]).
وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224ﻫ) أن «الخضم أشد في المضغ وأبلغ من القضم، وهو بأقصى الأضراس، والقضم بأدناها»([8]).
وقد جمع ابن سيده ( ت458ﻫ ) جميع دلالات لفظ خضم، فقال: «الخضم: الأكل عامة، وقيل: هو ملء الفم بالمأكول، وقيل : هو الأكل بأقصى الأضراس، وقيل : هو أكل الرطب خاصة، كالقثاء ونحوه، وكل أكل في سعة ورغد: خضم، وقيل: الخضم للإنسان بمنزلة القضم من الدابة»([9]).
وأما «قضم» فقد قال: «القضم: أكل بأطراف الأضراس، وقيل: هو أكل اليابس»([10]).
وعليه فقد ارتكزت الفروق بين الكلمتين على:
1 – الخضم أكل الرطب، والقضم أكل اليابس .
2 – الخضم لأكل الإنسان، والقضم للدابة .
3 – الخضم الأكل في سعة ورغد، والقضم بخلافه .
4 – الخضم الأكل بأقصى الأضراس، والقضم بأطراف الأسنان .
5 – الخضم الأكل بجميع الفم، والقضم أكل كل شيء دون الخضم .
6 – الخضم أشد في المضغ وأبلغ من القضم .
وهنا أرى أن ما ذكره ابن جني وتابعه فيه السيوطي، وغيره من علماء اللغة المحدثين من تفسيرهم اختيار الخاء لرخاوتها؛ لأكل الرطب، والقاف لصلابتها؛ لأكل اليابس، وتعليلهم لذلك صوتيًّا أن الصوت الأقوى للمعنى الأقوى، والصوت الأضعف للمعنى الأضعف لا ينطبق إلا على الدلالات الثلاث الأُوَل، أما الدلالات الثلاث الأُخَر فقد كانت الدلالات الأقوى في صالح الفعل (خضم)، وأن الدلالات للفعل (قضم) هي الأضعف معنى.
وهنا أرى أن الصوت له قيمة تعبيرية، لكن القوة والضعف غير منضبطة دائمًا، ولذلك أرى أن صوت القاف في (قضم)- وهو كما يقول بعض الباحثين المحدثين: «القاف عصيّة النطق بعض الشيء؛ لأنها كانت تحتاج إلى مجهود عضلي … ولا تزال تصنف مع الأصوات الشديدة، والأصوات الشديدة فيها التقاء أعضاء النطق التقاء محكمًا لا يُسمح فيه للهواء بالمرور، وهذا أمْرٌ أقوى وأصعب عضليًّا وفسيولوجيًّا من مجرد التضييق الذي يحدث مع الأصوات الأخرى … وقد جمعت الأصوات الشديدة (الانفجارية) في عبارة : أجدك قطبت»([11])– قد خيم بظلاله على المعنى، وهو حالة الشدة التي يعيشها الآكل من صعوبة وضيق، بخلاف حالة الرغد والسهولة مع صوت الخاء الرخو، وهذا المعنى منضبط مع جميع الفروق التي ذكرها أصحاب المعجمات وأهل اللغة.
على أن ما تجدر الإشارة إليه أن مفهوم القوة عند القدماء يختلف عنه عند المحدثين، فيرى علماء اللغة القدامى أن قوة الصوت تتحقق في امتلاكه أو وصفه بصفات قوية، يقول مكي القيسي: «فعلى قدر ما في الحرف من الصفات القوية كذلك قوته، وعلى قدر ما فيه من الصفات الضعيفة كذلك ضعفه»([12]).
وقد بيّن صفات القوة بقوله : «والشدة من علامات قوة الحرف، فإن كان مع الشدة جهر، وإطباق، واستعلاء، فذلك غاية القوة في الحرف»([13]).
وعليه فإن القوة والضعف عند علماء اللغة القدامى ترتبط بالناحية الفسيولوجية.
وأما مفهوم القوة عند المحدثين فقد اتسع ليشمل – مع الناحية الفسيولوجية – قوة الوضوح السمعي التي تتمايز به الأصوات عن بعض، وقد ركزوا عليه أكثر من تركيزهم على الجهد العضلي في أثناء نطق الأصوات، ويرجع السبب في ذلك إلى أثر الوضوح السمعي في تحديد الأصوات المكونة لقمم المقاطع المتميزة بقوة أسماعها، والأصوات المكونة لقواعد المقطع وحدوده، فالفتحة عند المحدثين أقوي أصوات العربية، في حين أنها أخف الحركات نطقًا([14]).
=======================
([1]) ينظر : الدلالة الصوتية عند ابن جني للدكتور ممدوح إبراهيم محمد ص 860 .
([3]) المصدر السابق 2/159، 160 .
([4]) ينظر : من الصوت إلى النص للدكتور مراد مبروك ص 3، والصوت والدلالة في ضوء التراث وعلم اللغة الحديث للدكتور محمد أبو عمامة ص 12، والدلالة الصوتية عند ابن جني للدكتور ممدوح إبراهيم ص 862، 863 .
([6]) الحديث في غريب الحديث لأبي عبيد الهروي بلفظ ( اخضموا فسنقضم) 4/187 ( خ ض م )، وقصر الأمل لابن أبي الدنيا، باب البناء وذمه، ص 168، والحديث برقم 259 .
([8]) غريب الحديث 4/187 ( خ ض م ) .
([9]) المحكم والمحيط الأعظم 5/47 ( خ ض م ) .
([10]) المصدر السابق 6/184 ( ق ض م ) .
([11]) مصطلحات صوتية غامضة ص 122 .
([14]) ينظر : مفهوم القوة والضعف في أصوات العربية للدكتور محمد يحيى سالم ص 57 – 59 .