العربية في عيون العلماء العرب والمستشرقين :
يذكر الدكتور إسحاق بن عبدالله السعدي في كتابه – اللغة العربية ومكانتها في الإسلام وموقف المستشرقين منها – نقلا عن مصادر متعددة في كتابه السابق أهمَّ ما وُصِفت به لغة الضاد على ألسنة أقطاب اللغة والأدب والفكر([1]) ، فقد كانت ” لغة تامة الحروف ، كاملة الألفاظ ، لم ينقص عنها شيء من الحروف فيشينها نقصانه ، ولم يزد فيها شيءٌ فيعيبها زيادته ، وإن كان لها فـروع أخـرى من الحـروف فهي راجعة إلى الحروف الأصلية ، أما سائـر اللغات الأخـرى ، ففيها حروف مُوَلَّـدة ، وينقصُ عنها حروف أصيلة ” ([2])
وهو ما أكده العقاد بقوله : ” فإذا قيس اللسان العربي بمقاييس علم الألسنة ، فليس في اللغات أوفى منه بشروط اللغة في ألفاظها وقواعدها ، ويحق لنا أن نعتبر أنها أوفى اللغات جميعًا بمقياس بسيط واضح لا خلاف عليه ، وهو مقياس جهاز النطق في الإنسان ، فإنَّ اللغة العربية تستخدم هذا الجهاز الإنساني على أتمه وأحسنه ، ولا تهمل وظيفة واحدة من وظائفه ، كما يحدث ذلك في أكثر الأبجديات اللغوية ” ([3]) .
كما تتميَّز اللغة العربية بأنها ذات مضامين ([4]) علميَّة ومنهجيَّة وموضوعيَّة وحضارية ، وتميَّزت في ذلك كله بالبيان والسهولة والوضوح على الرغم مِمَّا قد يبدو من صعوبة تعلمها في بادئ الأمر ([5]) .
ومن أعظم تجاربها أنَّها خالطت لغات كثيرة فلم تفسد في ألفاظها ولا في اشتقاقاتها ، ولا في تراكيبها وأساليبها ، أو في بيانها الدقيق المشرق ، ولم يتعدَّ تأثيرها بها عددًا محدودًا من الألفاظ التي تعربت استجابة لمتطلبات تطور أنماط الحياة وتنظيمها وازدهار الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعقلية والعسكرية والعمرانية في ربوع بلاد المسلمين ([6]) .
وقال العلامة ابن تيمية – رحمه الله – عن اللغة العربية : ” اعلم أن اعتياد اللغة العربية يؤثر في العقل والخُلُق والدين تأثيرًا قويًا بينًا ، ويؤثر أيضـًا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق ، وأيضـًا اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، فإنّ فَهْمَ الكتاب والسنة فرض ، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية ، ومالا يَتِمّ الواجب إلا به ، فهو واجب ” ([7]) .
ويقول عنها الأستاذ حفني ناصف في كتابه ” مميزات لغات العرب” :
” فإن للغة العربية من الفوائد خزائنَ لا تنفَـد ، وكنوزا لا تفنى ، وبدورا لا تحجب ، وعيونا لا تنضُب ، ولكن لا يصل إليها إلا من غاص بحرها ، وولّى وجهه شطرها ، وجاس خلال دِيارها ، وجاب نجادَها ووِهادَها ، وراد مُروجَها ، وَوَرد مناهلِها ، وكم في زواياها خبايا مستكنة يعثر عليها الباحثون ، وخفايا مستورة لا يقف عليها إلا المنقِّبون ، وكم بكُهوفِها البعيدة المنتهى ، وفي شعابها العديدة التشعب من معادن نفيسة وجواهر كريمة تظهر لطالبها متى عَمِل على استخراجها ، ووجه إليها عوامل البحث بمعَاوِل الفكر ، يؤمها دليل من التبصر يحمل مصباحا من التنبه يضئ غَياهِبَها ، ومغناطيسا من التدبر يرشدها إلى مقاصدها ([8]) .
ويقول ابن الأنباري تحت باب ” اللغة العربية أفضل اللغات وأوضحها ” : ” أين لسائر اللغات من السعة ما للغة العربية ؟ ويستطرد فيضرب مثلاً بقوله : ” وقد نُقـل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية ، والرومية ، وتُرجمت التوراة والزبور، وسائر كتب الله عز وجل إلى اللغة العربية ، أما القرآن فلا يمكن ترجمته للغات الأخرى ، لأن ما فيه من استعارة ، وتمثيل وقلب وتقديم وتأخير لا تتسع له طبيعة اللغات الأخرى” ([9]) .
وأما عن موقف المستشرقين منها ومدى إعجابهم بها ” فقد أدرك المستشرقون أهميتها ، ووقفوا على أثرها في وحدة الأُمَّة الإسلاميَّة من جانب آخر، فقد نُقل عن المستشرق جيوم بوستل Guillaume Postelقولـه عن اللغة العربية : ” … إنَّها تفيد بوصفها لغة عالميَّة في التعامل مع المغاربة والمصريين والسوريين والفرس والأتراك والتتار والهنود ، وتحتوي على أدب ثري ، ومن يجيدها يستطيع أن يطعن كل أعداء العقيدة النصرانية بسيف الكتاب المقدس ، وأن ينقضهم بمعتقداتهم التي يعتقدونها ، وعن طريق معرفة لغة واحدة [ العربية ] يستطيع المرء أن يتعامل مع العالم كله “، ويتباهى [ بوستل ] أنَّه يَقْطَع العالم الإسلامي من أقصى غربه إلى تخوم الصين دون حاجةٍ إلى مترجم ، وما ذلك إلاَّ لأنه حذق العربية لغة العالم حينذاك.
ويعترف أغلب المستشرقين بأنَّ القرآن الكريم هو سبب عالميَّة اللغة العربية ، وللتدليل على ذلك نذكر ما قاله المستشرق ” كارل بروكلمان “ حين قال : ” بلغت العربيَّة بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أيُّ لغة أُخرى من لغات الدنيا ، والمسلمون جميعًا مؤمنون بأن العربية وحدها اللسان الذي أُحل لهم أن يستعملوه في صلاتهم ” ([10]) .
وليس غريبا أن يؤمن أهل العربية بتميزها ورفعة قدرها ، وما أكثر ما سطَّره العرب من ثناء عليها على مر العصور ، لكن المثير هو اعتراف المستشرقين بفضلها ، وعلو مكانتها ، وسمو قدرها ، ومن أهم آراء هؤلاء المستشرقين في اللغة العربية :
1 ـ المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس حين يقول : ” إن في الإسلام سندًا هامًّا للغة العربية ، أبقى على روعتها وخلودها ، فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة ، كاللاتينية ، حيث انزوت تمامًا بين جدران المعابد ، ولقد كان للإسلام قوة تحويل جارفة أثرت في الشعوب التي اعتنقته حديثًا ، وكان لأسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب ، فاقتبست آلافـًا من الكلمات العربية ، ازدانت بها لغاتها الأصلية فازدادت قوة ونماء ، والعنصر الثاني الذي أبقى على اللغة العربية هو مرونتها التي لا تُبارى ، فالألماني المعاصر مثلاً لا يستطيع أن يفهم كلمةً واحدةً من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده منذ ألف سنة ، بينما العرب المحدثون يستطيعون فهم آداب لغتهم التي كُتبت في الجاهلية قبل الإسلام “([11])
2ـ المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون حين يقول : ” استطاعت العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر سواءً كان ذلك في الاكتشافات العلمية والحسابية ، أو وصف المشاهدات أو خيالات النفس وأسرارها واللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي ، والعربية من أنقى اللغات ، فقد تفرّدت بتفرّدها في طرق التعبير العلمي والفني والصوفي .
إنّ التعبير العلمي الذي كان مستعملا في القرون الوسطى لم يتناوله القدم ، ولكنه وقف أمام تقـدّم القوى المادية فلم يتطوّر ، أما الألفاظ المعبّرة عــن المعاني الجدلية والنفسانية والصوفية فإنها لم تحتفظ بقيمتها فحسب ، بــل تستطيع أن تؤثر في الفكر الغربي وتنشّطه ، ثمّ ذلك الإيجاز الذي تتسم به اللغة العربية والذي لا شبيه له في سائر لغات العالم والذي يُعدُّ معجزةً لغويةً كما قال البيروني ” ([13]) .
4ـ المستشرق الألماني فرنباغ حين يقول :” ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب ، بل إن الذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ ، وإن اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية وبين ما ألفوه حجابا لا يتبيّن ما وراءه إلا بصعوبة ” ([14]) .
5ـ المستشرق الفرنسي جاك بيرك حين يقول :” إن أقوى القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب هي اللغة العربية ، بل اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات ، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا ، إن الكلاسيكية العربية هي التي بلورت الأصالة الجزائرية ، وقد كانت هذه الكلاسيكية العربية عاملا قويا في بقاء الشعوب العربية” ([15]) .
6ـ المستشرق الألماني نولدكه حين يقول : ” إن اللغة العربية لم تَصِرْ حقـًّا عالميةً إلا بسبب القرآن والإسلام ، وقد وضع أمامنا علماء اللغة العرب باجتهادهم أبنية اللغة الكلاسيكية ، وكذلك مفرداتها في حالة كمال تام ، وأنه لا بدّ أن يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات اللغة العربية ، عندما يعرف أن علاقات المعيشة لدى العرب بسيطةٌ جدًا ، ولكنهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمة خاصة ، والعربية الكلاسيكية ليست غنيةً فقط بالمفردات ولكنها غنيةٌ أيضـًا بالصيغ النحوية ، وتهتمّ العربية بربط الجمل ببعضها …. وهكذا أصبحت اللغة ” البدويّة ” لغةً للدين والمنتديات وشؤون الحياة الرفيعة ، وفي شوارع المدينة ، ثم أصبحت لغة المعاملات والعلوم ، وإن كلَّ مؤمن غالبًا جدًا ما يتلو يوميا في الصلاة بعضَ أجزاءٍ من القرآن ، ومعظم المسلمين يفهمون بالطبع بعض ما يتلون أو يسمعون ، وهكذا كان لا بُدّ أن يكون لهذا الكتاب من التأثير على لغة المنطقة المتّسعة ما لم يكن لأيّ كتاب سواه في العالم ، وكذلك يقابل لغة الدين ولغة العلماء والرجل العادي بكثرة ، ويؤدّي إلى تغيير كثير من الكلمات والتعابير في اللغة الشعبية إلى الصحّة “ ([16])
7ـ المستشرق الألماني أوجست فيشر حين يقول :” إذا استثنينا الصين فلا يوجدُ شعبٌ آخرُ يحقّ له الفَخارُ بوفرةِ كتب علوم لغتِه ، وبشعورِه المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها ، بحَسْبِ أصول وقواعدَ غير العرب “ ([17]) .
8ـ المستشرق الفرنسي رينان حين يقول : ” من أغرب المُدْهِشات أن تنبُتَ تلك اللغةُ القوميّةُ ، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمّةٍ من الرُحَّل ، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها ، ولم يُعرف لها في كلّ أطوار حياتها طفولةٌ ولا شيخوخةٌ ، ولا نكاد نعلم من شأنها إلاّ فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبارى ، ولا نعرف شبيهًا بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملةً من غير تدرّج وبقيت حافظةً لكيانها من كـلّ شائبة ” ([18]) .
9ـ المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه حين تقول : ” كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمالَ هذه اللغة ومنطقَها السليم وسحرَها الفريد ؟ ، فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة ، فلقد اندفع الناس الذين بقوا على دينهم في هذا التيار يتكلمون اللغة العربية بشغف ، حتى أن اللغة القبطية مثلا ماتت تماما ، بل إن اللغة الآرامية لغة المسيح قد تخلّت إلى الأبد عن مركزها لتحتلَّ مكانها لغة محمد ” ([19] ) .
10ـ المستشرق الألماني كارل بروكلمان حين يقول : ” بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدىً لا تكاد تعرفه أيُّ لغةٍ أخرى من لغات الدنيا ، والمسلمون جميعا مؤمنون بأن العربية وحدها اللسانُ الذي أُحِلَّ لهم أن يستعملوه في صلاتهم” ([20]) .
هكذا كانت اللغة العربية في عيون العلماء العرب والمستشرقين ، يكاد يتفق الجميع على تفردها وتميزها ، وعلو مكانتها وسموها ، بل جعلوا معرفتها فرضًا واجبًا القيام به ، وأجمعوا على كثرة مفرداتها ودقة معانيها وحُسن مبانيها.
======================
([1]) اللغة العربية ومكانتها في الإسلام من ص 11 بتصرف .
([2]) صبح الأعشى . القلقشندي : 1/149. طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية . الذخائر 2004م
([3]) أشتات مجتمعات في اللغة والأدب . عباس محمود العقاد . ص 11 – 12عن دار المعارف . مصر. ط . الخامسة 1982م .
([4]) اللغة العربية ومكانتها في الإسلام . مرجع سابق ص 11 – 12 . عن كتاب الصاحبي في فقه اللغة . لابن فارس . ص 77 – 81
([5]) السابق ص 13 عن كتاب . اللغة العربيَّة ومكانتها في الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة . جميل عيسى الملائكة . ص 129
([6]) السابق ص 13 – 14 عن كتاب . عالمية اللغة العربيَّة . محمد مصطفى الحاج . ص 258
([7]) السابق ص 15 عن كتاب . اقتضاء الصراط المستقيم . لابن تيمية . ص 207 .
([8]) مميزات لغات العرب . حفني ناصف . ص 2 بتصرف . ط . الأولى . المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق . 1886 م .
([9]) شبكة المعلومات . منتدى عيون العرب . حوار عن اللغة العربية .
([10]) اللغة العربية ومكانتها في الإسلام . مرجع سابق ص 16 نقلا عن مصادره .
([11]) الفصحى لغة القرآن . أنور الجندي . ص 301 . دار الكتاب اللبناني . بيروت 1982م .
([16]) شبكة المعومات . منتدى جامعة أم القرى . عن كتاب . اللغة العربية . نذير حمدان . ص 133 .
([17])شبكة المعومات . منتدى جامعة أم القرى . عن كتاب . مقدمة المعجم التاريخي . أوجست فيشر.
([18])مجلة اللسان العربي . مقال للدكتور محمود فوزي حمد . العدد 24 ص 85 .
([19]) السابق ص 86 . عن كتاب : شمس العرب تسطع على الغرب .
([20]) شبكة المعومات . منتدى جامعة أم القرى . عن كتاب : من قضايا اللغة العربية المعاصرة . المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم . ص 274 .