الشبهة السادسة:
أما الغلطة السادسة التي لا وجود لها إلا في ذهن ذلك المأفون المسكون بالأوهام والضلالات فهي زعمه أنه كان يجب أن يقال: “وخُضْتُم كالذين خاضوا” بدل قوله تعالى في الآية 69 من سورة “التوبة”: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} (ص 107) ، أي أن المشبه به، في نطره الكليل، هو جماعة أخرى من الخائضين. وقبل أن أفنَّد هذا التنطع الغشوم أحكي القصة التالية: فقد حضرت، وأنا في أكسفورد في أواخر السبعينات، محاضرة لشاب متحذلق من المستشرقين كان هجاماً طويل اللسان مع طلابه، فسمعته يقول أثناء المحاضرة إن في القرآن شذوذات لغوية، فانتظرتُ حتى انتهى الدرس وخرج فخرجت معه أساله أن يضرب لي أمثلة على هذا الذي يدّعيه، فأشار إلى هذه الآية قائلاً: تجد الإشارة إليها في تفسير الطبري، ولم أكذّب خبراً ونزلت في الحال إلى مكتبة المعهد وقلّبت تفسير الطبري فلم أجده ذكّر شيئاً من ذلك، فقلت: أنظر في تفسير النيسابوري الذي على هامشه، فوجدته، بعد أن شرح الآية على أساس أن معناها: “وخضتم (أيها المنافقون) كالخوض الذي خاضه أمثالكم في الأزمنة السابقة”، قد أضاف هذه العبارة: “وقيل: أصله “كالذين” فحذف النون”. فاستغربتُ من تدليس المستشرق الصغير الذي أكد لي بقوة أن الطبري هو قائل ذلك، بل لقد أَوْهَم كلامه أن هذا هو التفسير الوحيد الذي قال به ذلك العلاّمة الجليل. وكل ذلك غير صحيح كما قلت، بل قائله هو النيسابوري، الذي أرجأه إلى ما بعد الفراغ من التفسير الذي ذكرتُه، وأورده بصيغة التمريض:”قِيلَ”، التي تدل على أنه غير مقتنع به. والشاهد في هذه القصة أن صويحبنا إنما يردد ما يلقنونه إياه دون فهم كالببغاء!
ولْنورد الآية من بدايتها حتى تنجلي الحقيقة لمن لهم أعين يبصرون بها، وآذان يسمعون بها، وقلوب يفقهون بها، أما الذين ختم الله على قلوبهم، وجعل في آذانهم وقراً، وعلى عيونهم غشاوة، فهؤلاء ميؤوس من حالهم. تقول الآية، وقد وردت في سياق تعنيف المنافقين وفضح مؤامراتهم وألاعيبهم الصبيانية وخوضهم العابث في سمعة النبي عليه السلام وفي آيات القرآن: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} . وواضح تماماً أن الآية تقول إن المنافقين قد استمتعوا بنصيبهم كاستمتاع مَنْ قبلهم بنصيبهم، فما الذي يقتضي المنطق أن نفسّر به الجملة التالية بعد ذلك في الآية؟ أليس من الطبيعي أن نقول: “وخضتم كالخوض الذي خاضوه” حتى ينسجم الكلام بعضه مع بعض ويكون المشبَّه به في الجملتين هو استطاع مَنْ قبلهم وخَوْضهم؟ لو قلنا: “استمتعتم كاستمتاعهم، وخضتم كالذين خاضوا، لذهب الانسجام من الآيةعلى الفور وأصبحت قلقه. ثم ما معنى “وخضتم كالذين خاضوا”؟ وإذا كان المقصود هم الذين قبلهم، فلماذا لم تستعمل الآية الكريمة الضمير بدلاً من الاسم الموصول فتقول: “وخضتم مثلهم” بغض النظر عن غموض المعنى؟ ولنفترض أننا ضربنا صفحاً عن ذلك كله وقلنا إن المقصود فعلاً هو “وخضتم كالذين خاضوا”، فهل يكون ذلك خطأ لغوياً؟ كلاً. ذلك أن المفسّر الذي شرحها هذا الشرح قد أقام كلامه على أساس أن من العرب القدماء من كان يستعمل “الذي بمعنى “الذين”. ليست المسألة إذن مسألة خطأ بل مسألة فصاحة وعدمها، وهذا هو الذي دفعني إلى سوق الأسباب المنطقية والبلاغية التي تجعلني أرفض ذلك التفسير، وهذا كل ما هنالك.