تتجلى عبقرية الكلمة عندما تكون محفزاً لعمل عظيم، وحشداً لغاية سامية، واستفزازاً لطاقة معطلة، لاسيما في نفوس الناشئة، الذين لم تلوث فطرتهم بعد بشواغل الحياة وصوارفها.
ولا ريب في أثر التحفيز في نفوس الناشئة، ودفعهم إلى السبق والفوق في مجالات الحياة المختلفة.
لقد حرص القرآن على هذا المبدأ التربوي الناجح ونبه عليه في مواضع كثيرة من التنزيل، وما توارد ألفاظ السرعة والسبق والاستباق، والمنافسة والسعي والزيادة.. إلخ في الذكر الحكيم إلا صورة من صور التحفيز والتشجيع وكلها ألفاظ تتلاقى للدلالة على علو الهمة ورغبة الوصول إلى غاية الكمال البشري، والسمو الإنساني، في العلم والمعرفة والإحسان، وفي تقديم كل ما هو نافع مثمر للبشرية.
وقد كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) مشجعاً للنابهين، راعياً لمواهبهم، فخرج من مدرسته عظماء وعباقرة لم تعرف الدنيا لهم مثيلاً، وما وراء ذلك إلا محفز عظيم ومرب حكيم كان يتعهد صفات أصحابه ويزكيها حتى تستوي على سوقها وتبلغ النهاية في اسمها ورسمها وسمتها.
وعلى نحو هذا سار سلفنا الصالح، وتبنت الدولة الإسلامية تشجيع الموهوبين وتحفيز هممهم للإسهام في بناء الدولة الإسلامية ونهضتها، فسمعنا عن جوائز الخلفاء والأمراء … فكان – ما نعلم – من عظم الدولة الإسلامية وقوتها وهكذا صنع الأساتذة والمربون في مدارس العلم ومعاهده، ومن ثم صار المجتمع غاصاً بالعلماء والرواد في كل علم وفن.
أما حين جنح المجتمع وصار يتبنى كل غث من الفكر، وكل ساقط من الأدب، وكل تافه من الشباب .. صار حالنا على ما نرى.
يقول أ/ علي الطنطاوي: قرأت مرة أن مجلة إنجليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة، قالت: إنه التشجيع، وقالت: إنها في تلك السن، بعد تلك الشهرة والمكانة تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير، لا سبيل أمامنا للرقي بالمجتمع والنهوض به إلا تبني سياسة التحفيز والتشجيع للمواهب، والقدرات، والبعد عن سياسة التثبيط وخنق المواهب، وقص أجنحة الإبداع لديهم، وبذا نحرم الأمة من عبقرية أصحابها وإبداعهم.
ولو بحثنا في سيرة كثير من عظمائنا ومفكرينا الأفذاذ، لوجدنا أن وراء نبوغهم كلمة محفزة تسللت إلى عقولهم البكر في مرحلة النشأة والتكوين.
حكى العقاد عن سبب حبه للكتابة ونبوغه فيها، أن وراء ذلك كلمة تشجيع سمعها من الشيخ/ محمد عبده عندما زار مدرسته الابتدائية، وطالع كراسة الإنشاء، ثم قال: ما أجدر هذا أن يكون كاتباً بعد !! يقول العقاد: فكانت هذه الكلمة أقوى ما سمعت من كلمات التشجيع.
لقد تسللت كلمة الشيخ إلى عقل الصغير، فكانت جذوة أشعلت فيه رغبة في السمو والكمال، وقد رزق من صفاء الذهن، واكتمال الموهبة، ما أهله لذلك.. فكان ذاك الكاتب العملاق الذي كتب في أسرار اللغة، وفي عبقريات العظماء، وفي فلسفة التاريخ ما لا ينازع فيه.
وهذا يلقي على المعلمين والمربين عبء تفقد مواهب الناشئة، وفرز مواهبهم، ثم تشجيعهم عليها، وإعانتهم في سبيل تحصيلها.
ثم علينا أن نحترم موهبة الطفل، ونعمل على الارتقاء بها، ولا نعاندها، فالطبيعة لا تعاند.
حكى لي أن المهندس العظيم عبد الرحمن حسنين مخلوف نجل مفتي مصر الأسبق، كان صغيراً ومعه مسطرة، في حضور القطب الصوفي الشيخ/ أبو الوفا الشرقاوي، فلما أشار أحدهم للطفل بالهدوء، انتفض الشيخ الشرقاوي قائلاً: لعله يكون مهندساً وقد صدقت نبوءة الشيخ فتخرج الطفل من كلية الهندسة، وحصل على الدكتوراه من ألمانيا، واختير ليشغل منصب خبير الأمم المتحدة لتخطيط المدن في السعودية، وأنجز العديد من مشروعات التخطيط العمراني لكل من جدة ومكة والمدينة المنورة، ثم عين مديراً لتخطيط المدن في أبو ظبي … وله إنجازات عظيمة في مجال التخطيط والعمل.
إن المربي الحكيم، والمعلم الناجح، هو الذي يتبنى موهبة الناشئة، ويستثيرها ويعمل على أن يصل بها إلى غاية كمالها الممكن، إذ لا سبيل إلى النهضة إلا الاستثمار في العقول والأفكار.
لقد قال الشيخ للتلميذ: إن خطك يشبه خط المحدثين، فكان ذاك التلميذ هو الذهبي، وما أدراك ما الذهبي حفظاً وعلماً وفهماً.
وقال الشيخ للتلميذ: من للصحيح ؟ فكان ذلك التلميذ، هو البخاري أول جامع لصحيح أحاديث رسول الله، وصاحب أصح كتاب بعد كتاب الله بإجماع العلماء، ومثل هذا صنع أبو حنيفة مع تلميذه أبي يوسف، ومالك مع تلميذه الشافعي، وكثير من الأشياخ مع تلاميذهم.
ثم إن على الأمهات – وهن مصنع الرجال – ألا يغفلن عن ذاك الجانب التربوي، فرب كلمة منها صنعت رجلاً صالحاً تصلح به الأمة.
كانت أم الشيخ/ محمد الخضر حسين تلاعب صغيرها وتهدهده قائلة: يا الله يا الخضر، تكبر وتصير شيخ الأزهر .. وقد كان.
هكذا يولد العظماء وتتفتق عبقريتهم ويكتمل إبداعهم وبغير التحفيز تختفي المواهب ويموت الإبداع ويخسر المجتمع كثيراً.