حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

شبهات لغوية حول القرآن [16].. بقلم أ.د/ إبراهيم عوض

المفكر الإسلامي وأستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب- جامعة عين شمس. (تم النشر بإذن من سيادته

الشبهة السادسة عشرة:

في قوله تعالى في الآية 59 من سورة “آل عمران”: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يعترض عبد الفاضي مؤكداً إنه “كان يجب أن يُعْتَبر المقام الذي يقتضي صيغة الماضي لا المضارع فيقول: قال له: كن، فكان” (ص 110) .

وواضح إنه، لجهله وحرمانه من المقدرة على تذوق الأساليب الأدبية الرائعة وما تتميز به من مفاجأة القارئ أو السامع في كثير من الأحيان بما يهزّه ويوقظه ويخرجه من النزعة الآلية التي تستولي علينا من كثرة ما نرى الأمور تجري على وتيرتها المعهودة، يظن إنه لا يوجد إلا طريقة واحدة في التعبير عن كل معنى. وهذه طفولية لغوية وأدبية، وإلا فكيف فاته أن عبارة “كن، فيكون”، وإن استُعْمِلت هنا في الكلام غن خلق آدم في الماضي، فإنها تمثل مبدأ عاماً لا يتقيد بزمن، فأُبْقِيَتْ من ثَمّ على حالها التي وردت بها في المواضع الأخرى من القرآن الكريم، وكلها تقريباً مما لا يتقيد بزمن. فهذه نكتة بلاغية رهيفة لا يقدر على التقاطها بُلَداء الذهن والذوق.

ثم هناك نكتة بلاغية أخرى مثلها رهافةً بحيث لا يستطيع سَمِيك العقل والوجدان أن يتنبه إليها، ألا وهي أن الحديث في الآية، وإن كان عن آدم أبي البشر، فإنه يصدق كذلك على أبنءا آدم في المستقبل، فلاستخدام القرآن لهذا السببِ صيغة المضارعة التي تدل على الاستمرار والديمومة. ترى أفهم الجهول أم نعيد الكلام من جديد؟ وهناك نصيحةٌ تقول: لا تلْقُوا بالدرر أمام الخنازير! وما إلى الخنازير قَصَدْنا بكتابة ردنا هذا، ولكننا وضعناه لطَيًبي النية ممن توسوس الثعالب في آذانهم، وذلك كي يأخذوا حذرهم فلا ينخدعوا بملاسة الجلد عن نار الحقد المستعرة في قلوب هذه الثعالب الفتاكة. ومن أمثلة عطف المضارع على الماضي في الشعر الجاهلي قول تأبط شراً يصف عراكه مع الغول:

بأنّي قد لقِيتُ الغول تسعى … بسُهْبٍ كالصحيفة صحصحانِ
فآخذُه فأضربها فخرًتْ … صريعاً لليدين وللجِرانِ

ثم نختم هذا الدرس بسَوْق هذين الشاهدين المشابهين من الكتاب المقدس عند الضالّ التعيس: جاء في سفر “نبوءة أَشَعْيَا” (6/9 – 10) عن رب العزة: “قال: انطِلقْ وقل لهذا الشعب (أي بني إسرائيل) : اسمعوا سماعاً ولا تفهموا، وانظروا نظراً ولا تعرفوا. غلًظْ قلب هذا الشعب وثَقًلْ أذنيه وأغمضْ عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه فيرجع فيُشْفَى”. ويرى شراح الكتاب المقدس أن في الكلام هنا مجازاً حيث تكرر استخدام صيغة الأمر في الكلام على حين أن المقصود هو المضارع الدال على المستقبل، بمعنى أن بني إسرائيل سيسمعون ولكن لن يفهموا، وسينظرون ولكن لن يَرَوْا. وقد حوّل يوحنا في إنجيله (12/ 39 – 40) الزمن في هذه الأفعال إلى الماضي وجعل الفاعل هو الله تعالى: “لأن أشيعاً قال أيضاً: أعمى (أي الله) عيونَهم وقسَّي قلوبَهم لئلا يبصروا بعيونهم ولا يفهموا بقلوبهم”. ومثل ذلك ما جاء في مفتتح الفصل الثاني عشر من سفر “الأحبار”: “أية امرأة حبَلَتْ فولدت ذكراً فلْتكُنْ نجسة سبعة أيام … فإن ولدت أنثى فلتكن نجسة أسبوعين”، حيث استُخْدِمت “لام الأمر” مع المضارع بدلاً من استخدام المضارع المجرد من اللام رغم أن الكلام هنا خبر لا طلب.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu