تساهم معاني النحو في توضيح العديدِ مِنْ آيِ القران الكريم ؛ ولا يخفى على دارسِ اللغة العربيّةِ الارتباطُ الوثيقُ بينَ المعنى والنحو، إذ كلّما تعدّد إعرابُ الكلمة، تعدّد المعنى .وتبقى الوجوه الإعرابية من الوسائل الإجرائية المهمة والمسعفة لتحقيق أهداف النصّ القرآنيِّ وغاياته، وللبحث عن كلّ ما يفيد في استنطاق نصوصه.
لتأكيدِ هذا الترابط الحاصل بين النحو والمعنى،اخترت معالجة آيات[1] من سورة الأعراف على المستويين النحوي والدلالي،وأشير هنا إلى أنني لم اعتمد منهجا خطيا في ذلك،بل حاولت ترتيب مجموعة من الظواهر اللغوية حسب مجالها المعرفي ، وربطها بآراء بعض المفسرين[2] ،ومن ثم استخراج الدلالات التي تتيحها اختلافاتهم.
ولتحقيق ذلك،أوردت في البداية المعنى الإجمالي للآيات،ثم خصصت محورا للحديث عن بعض حروف المعاني الجارة[3] وأثرها في توجيه المعاني،حسب ورودها في هذه الآيات.وبعد ذلك تناولت ظاهرة العطف ودورها في السياق الذي وردت فيه،ثم تطرقت إلى تخريجات المفسرين بخصوص نصب “صراطك”وما يتيحه من توسيع دلالي.
- المعنى الإجمالي للآيات القرأنية (متن الاشتغال) :
يقول الله تعالى :
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿١٦﴾ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴿١٧﴾ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿١٨﴾ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿١٩﴾ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴿٢٠﴾ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴿٢١﴾ [4].
تأتي الآيات المذكورة في سياق قصة آدم، وتتضمن ما لحق إبليس من الغواية والضلال، فقد اقسم على انه سيقعد لآدم وذريته على طريق الحق الموصل للجنة وسيسعى إلى صدّهم عن دين الله.ويبرز الزمخشري المقصود من قول إبليس بقوله: ” فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم “[5].وقد رد الحق سبحانه بطرده من الجنة مذموماً معيباً مع من سيطيعه من الإِنس والجن،متوعدا،في الآن نفسه، أتباعه الغاوين بجهنم . وهكذا،أسكن الله آدم وحواء الجنة، وأمرهما بالتنعم فيها،ونبههما إلى عدم الأكل من الشجرة،لكن الشيطان حسدهما وسعى إلى الوسوسة والمكر والخديعة ،فألقى لهما بصوتٍ خفي لإِغرائهما بالأكل من الشجرة ليظهر لهما ما كان مستوراً من العورات التي يقبح كشفها،وحلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما.ويأتي آخر القصة متضمنا لاعتراف ادم وحواء بالذنب،وطلبهما المغفرة من خالقهما.وبالفعل ،جاءت توبة الله على آدم مقرونة بخروجه من الجنة، فأهبطه الله وزوجه إلى الأرض ، وأهبط معهما إبليس..[6]
- بعض حروف المعاني الجارة وأثرها في توجيه معاني القران الكريم :
2-1- حرف الباء[7] :
يقول تعالى : ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿١٦﴾ [8]
اختلف المفسرون في توجيه حرف الباء في قوله :﴿ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ فقد اعتبرها أبو حيان قسميَّة[9]،حيث يصبح المعنى : أقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم.وبعبارة أخرى : بقدرتك عليَّ ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم[10].
ووجهها الزَّمَخْشَرِيُّ باعتبارها سببيَّة[11] ، قال:﴿ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾أي فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ؛ لأقعدن لهم، ويصبح المعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم”[12].ويربط الزمخشري بين دلالة الباء وفعل القسم المحذوف مجيبا عن سؤال تعلق الباء بقوله” تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره ، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ” بمعنى فبسبب إغوائك أقسم[13]. لم يتفق أبو حيان مع الزمخشري في مسألة ما ذكره من أنَّ اللاَّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ ب(لأقْعُدَنَّ)،واعتبر أن في ذلك خلافا[14].وأورد أبو حيان كذلك،رأي ابن عطية الذي يعتبر انه من اللائق بالقصة أن تفيد الباء معنى المجاوزة،معتمدا في ذلك على قول “كما نقول فبإكرامك لي يا زيد لأكرمنك”.[15]وبتطبيق ذلك على الآية، يصبح المعنى :بإغوائك لي لأغوينهم.ويقدرها ابن عاشور بقوله”أقسم لأقعدن لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي“.[16]
نحصل، بتجميعنا للمعاني السابقة، على معنيين مرتبطين بباء القسم،وأخرى متعلقة بباء السبب.
بالنسبة لتخريج باء القسم، فالمعاني المحصل عليها هي :
- أقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ..
- بقدرتك عليَّ ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم.
أما بخصوص باء السبب ،فقد تولدت عنها المعاني الآتية :
- بِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم..
- بسبب إغوائك أقسم..
- بإغوائك لي لأغوينهم
- أقسم لأقعدن لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي
يبدو انه رغم الاختلاف في توجيه حرف الباء ،فان عنصر القسم حاضر في التخريجات جميعها.ويبقى الفرق في اعتبار السبب فقط.ولا يمكن،من وجهة نظرنا،أن نقصي هذا العنصر من العبارة،على اعتبار أن إبليس لم يسلك سلوك الغواية من تلقاء نفسه،وإنما لسبب معروف.ومن المعلوم انه رفض السجود لآدم ،فهو خلق من نار ،ولا يمكن،في نظره، أن يتساوى بآدم الذي خلق من طين.
2-2-حرفا (من) و (عن) :[17]
يقول تعالى :﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴿١٧﴾﴾ [18].
يلاحظ، من خلال الآية، تنويع في استعمال حروف الجر،فنجد الاسمين الأوَّلَيْن مجرورين ب(مِنْ) والثَّانيين مجرورين ب (عَنْ) .وفي سياق توظيفهما في الآية المذكورة، ذهب الزَّمَخْشَرِي إلى تسمية (مِنْ) بحرف الابتداء في عبارة (مِنْ بين أيْديهمْ ومن خلفهم ) ، وتسمية (عَنْ)بحرف المُجاوَزَةِ، في عبارة (عنْ أيْمَانِهِم ، وعن شَمَائِلِهِمْ[19])،ويبرر ذلك بقوله : ” المفعول فيه عُدِّي إليه الفِعْلُ نحو تعديته إلى المفعُولِ به ، فكما اختلفت حروفُ التَّعْدِيَة في ذلك اختلفت في هذا”.[20]ويضيف انه عندما نقول جلس عن يمينه ، وعلى يمينه ، وعن شماله ، وعلى شماله، فالمقصود من (عَلَى يَمينِهِ) أنَّهُ”تمكَّن من جهة اليمين تمكُّن المُسْتعلِي من المُسْتَعْلَى عليه”[21].ويذكر معنى(عَنْ يَمينِهِ) أنَّهُ جَلَسَ مُتَجافِياً عن صاحب اليمينِ غير مُلاصِق له مُنْحَرِفاً عنه ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى استعمل في المُتَجَافِي وغيره”[22]. أما فيما يتعلق ب(من)،فقد بررها الزمخشري بقوله”مِنْ بين يديه ومن خلفه؛ لأنَّ الفِعْلَ يقع في بعض الجِهَتَيْنِ كان تقُولُ : جِئْتُ من اللَّيْل تريدُ بعض اللَّيل”[23]. ويستحسن أبُو حيَّان هذا الرأي بقوله : “وهو كلامٌ لا بَأسَ به”.[24] وقد علل تقويمه هذا،واعتبر أن (من)حرف ابتداء ،لأن العدو غالبا ما يأتي من جهة الخلف ومن بين الأيدي، ويوضح ذلك بقوله :” وإنَّما خصَّ بين الأيدي ، والخلف بحرف الابتداءِ الذي هو أمكن في الإتْيَانِ؛ لأنَّهُمَا أغلب ما يجيءُ العدوُّ منهما فَيَنَال فرصتَهُ”[25].ويضيف أيضا في مسألة تقديم بين الأيدي على الخلف فيقول : “وقدَّم بين الأيْدِي على الخَلْفِ؛ لأنَّهَا الجِهَةُ الَّتِي تَدُلُّ على إقدام العَدُوِّ وبسالته في مواجهة قِرْنِهِ غير خَائِفٍ مِنْهُ..”[26] وسمى( عن ) حرف مجاوزة لأن جهة الأيمان والشمائل لا يأتي،في الغالب،منهما العدو.ورأى أن تقديم الأيمان على الشمائل ناتج على اعتبار جهة اليمين الجهة القوية التي يأتي منها العدو، ويوضح ذلك بقوله : “وخصَّ الأيمان والشَّمائِلَ بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العَدُوّ ، وإنما يجاوز إتْيَانَهُ إلى الجِهَةِ الَّتِي هي أغْلَبُ في ذلِكَ ،وقُدِّمَتِ الأيمان على الشَّمائِل؛ لأنها هي الجِهَةُ القويَّةُ في مُلاقَاةِ العَدُوِّ ..”[27]وتبعا لذلك، يتبين أن أبا حيان لا يختلف مع الزمخشري في تسمية (من) حرف ابتداء و(عن) حرف مجاوزة،لكن الاختلاف يكمن في طريقة تعليلهما لهذا التخريج.
3-2-حرفا (اللام[28] + من) :
يقول تعالى قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿١٨﴾[29]
- اللام في قوله تعالى: ﴿ ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ اختلف في قراءة اللام في هذه الآية ،إذ يمكن أن نتحدث عن حالتين :
- الحالة الأولى : قراءة اللام المفتوحة:
- يورد أبو حيان[30]، لهذه القراءة ،تعليلين :
- التعليل الأول :رأي الجمهور
يذهب الجمهور إلى اعتبار أنَّ اللاَّم لامُ الابتداء ، و) مَنْ ( مَوْصُولَةٌ و)تَبِعَكَ ( صلتها ، وهي في محلِّ رفع بالابتداء أيضاً ، و) لأمْلأنَّ ( جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، وذلك القَسَمُ المَحْذُوفُ ، وجوابُه في محلِّ رفع خبرٍ لهذا المُبْتَدَأ ،فيصبح المعنى :للّذي تبعك منهم،واللَّهِ لأمْلأنَّ جَهَنَّم منكم.
- التعليل الثاني : رأي أبي حيان
يرى أبو حيان أنَّ اللاَّمَ موطِّئَة لقسم مَحْذُوفٍ ، و )مَنْ ( شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء ، وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ لِسَدِّ جواب القَسَم المحذوف مَسَدَّه.ويصبح المعنى في هذه الحالة:أقسم من تبعك منهم لأملأن جهنم منهم ومنك[31].
- الحالة الثانية : قراءة اللام المكسورة
يدرج أبو حيان هذه القراءة ،وهي منقولة عن عَاصِمٌ في رواية أبي بكر من بعض طرقه والجَحْدَرِيُّ وهي ) لِمَنْ( بكسر اللام ، ويعرض في ذلك ثلاث تخريجات :
- يعتبر ابن عطيَّة، في التخريج الأول ،أن اللام متعلقة بقوله « لأمْلأنَّ » ويتأول المعنى بقوله: “لأجْلِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُم لأمْلأنَّ“[32].لكن أبا حيَّان يرد على هذا التخريج بقوله: “ويمتنعُ ذلك على قَوْلِ الجُمْهُورِ أنَّ ما بعد لام القسم لا يعملُ فيما قبله “[33] .
- ويورد أبو حيان ،في سياق اللام المجرورة ،التخريج الثاني، وهو للزمخشري ،يعتبر فيه الجَار والمجرور خبراً مُقَدَّماً ،ولأملأن في محل الابتداء،ويقدر المعنى ب : لمن تَبِعَكَ منهم الوعيدُ ، على اعتبار أن (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ ) دّلَّ على قوله هذا الوعيد ؛ لأن هذا القسم وجوابه وعيدٌ ،وهذا ما يبينه الزَّمخشريّ بقوله : “بمعنى :لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو قوله :لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ على أنَّ لأمْلأنَّ في محلِّ الابتداء و لمَنْ تَبِعَكَ خبره “[34].ويأتي أبو حيان مرة أخرى ليرد على هذا الرأي بقوله:” فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأٌ على مذهب البصريين؛ لأنَّ قوله : لأمْلأنَّ جملةٌ هي : جوابُ قسم محذوف ، فمن حَيْثُ كونها جُمْلَةً فقط ، لا يجوز أن تكون مبتدأة ، ومن حيث كونها جوابا للقسم يمتنع أيضاً؛ لأنها إذْ ذاك من هذه الحَيْثيَّة لا موضع لها من الإعراب ، ومن حيث كونها مبتدأ لها موضع من الإعراب ولا يجُوزُ أن تكون الجُمْلَةُ لها مَوضعٌ لا موضع لها بحال؛ لأنَّهُ يلزم أن تكون في موضع رفع ، لا في موضع رَفْعٍ ، داخلا عليها عاملٌ غَيْرُ داخلٍ ، وذلك لا يتُصَوَّرُ »[35] .
- ونقل أبو حيان تخريجا ثالثا عن أبي الفَضْلِ الرَّازِي [36]،يعتبر فيه أنَّ اللاَّمَ المجرورة متعلِّقَةٌ بالذَّأم والدَّحر[37]، حيث يكون المعنى : اخْرُجْ بهاتين الصِّفتين لأجل اتِّباعِكَ [38].
إن اختلاف توجيهات حرف اللام ساهم في تنوع معاني الآية الكريمة،فإذا كانت اللام مفتوحة، فالمعاني هي :
- للّذي تبعك منهم، واللَّهِ لأمْلأنَّ جَهَنَّم منكم.(باعتبار “من” موصولة)
- أقسم من تبعك منهم لأملأن جهنم منهم ومنك. .(باعتبار “من” شرطية)
وإذا كانت اللام مجرورة،فالمعاني المحصل عليها هي :
- لأجْلِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُم لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ.
- لمن تبعك منهم الوعيد لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ.
- اخْرُجْ بهاتين الصِّفتين(الذَّأم والدَّخر) لأجل اتِّباعِكَ.
يتضح إذن ،أن الاختلاف في توجيه اللام في هذه الآية نتج عنه تعدد دلالي ،لايتناقض في مجمله،بل يكمل كل وجه من هذه المعاني المعنى الآخر.وفي رأينا يبقى التوجيه الأول هو الأقرب إلى أذهاننا نظرا لتميز المعنى البسيط عن غيره،وخصوصا المعاني التي تنبثق عن تقديرات غير متكلفة.وهذا ينطبق على المعنى الأول.
ب-اللام في قوله تعالى : ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا ﴾ :
ذهب أبو حيان[39]، في شأن لام ) لِيُبْدِي(،إلى اعتبارها (لام كي) قَصْدَ إبداء سوْآت ادم وحواء، حيث تنحط مرتبتهما بكشف ما ينبغي ستره،ومن ثم يكون الشيطان رفقة ادم وحواء واقعين في المخالفة،ويصبح المعنى : وسوس لهما الشيطان لكي يبدي لهما سواتهما . ويورد رأيا آخر يجعل ) اللاَّم (للِصَيْرُورةِ [40].ويعتبر أنَّ الشِّيْطَانَ لم يكن يعلم بهذه العقوبة المخصوصة فيقصدها،ويقدر المعنى في هذه الحالة ب: “أن أمْرَهُمَا آل أو صار إلى ذلك“،بتعبير آخر : أن سواتهما صارت بادية.
الملاحظ[41] أن تسمية اللام بلام العاقبة، تقتضي عدم علم الشّيطان بأن العصيان سيفضي إلى إظهار سوآت ادم وحواء،حيث يشبّه،في هذه الحالة، حصول الأثر عقب الفعل، بحصول المعلول بعد العلّة. وتسمى هذه اللام لام العلّة،إذا كان الشيطان يعلم ذلك[42].ولما كان إبليس يسعى جاهدا إلى إلحاق الأذى بآدم وحواء،ويريد إيقاعهما في المعصية،كان تخريج التعليل هو الأقرب، على اعتبار أن إبليس كان يعلم أنّ العصيان سيُفضي بهما إلى سوء الحال.وإبداء السوْآت مظهر من مظاهر هذا السوء.
- ظواهر نحوية أخرى :
ا – العطف :
تميز الطاهر بن عاشور بإبرازه لوظيفة العطف في هذه الآيات،وتطرق إلى عطف جملة﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ ﴾ على جواب القسم ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿١٦﴾ ،ورأى أن هذا العطف يعبر عن” التّدرّج في الأخبار إلى خبر أهم لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها، لأنّ الجملة الأولى أفادت التّرصد للبشر بالإغواء، والجملة المعطوفة أفادت التّهجّم عليهم بشتّى الوسائل.”[43]
وفي قوله تعالى فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ الشَّجَرَةِ ﴾،يرى عطف جملة:﴿ وقال ما نهاكما ربكما﴾على جملة ﴿ فوسوس ﴾، في إشارة إلى أنّ الشيطان وسوس لآدم وزوجه وسوسة غيرَ قوله: ﴿ ما نهاكما﴾إلخ ..ثمّ ثنى وسوسته بأن قال مَا نهاكما. وتتمثل فائدة العطف في هذا السياق في الإشعار بأنّ آدم وزوجه تردّدا في الأخذ بوسوسة الشّيطان فأخذ الشيطان يراودهما،. ويتابع ابن عاشور كلامه مبينا أهمية العطف في هذا الموضع بقوله” ولو كانت جملة: ﴿ ما نهاكما ﴾ إلى آخرها بياناً لجملة ﴿فوسوس﴾ لكانت جملة: ﴿ وقال ما نهاكما ﴾ بدون عاطف، لأنّ البيان لا يعطف على المبيَّن.”[44]ومن ثم يريد ابن عاشور أن يبين أن هذه الجملة مستقلة بذاتها والعطف هنا للاستئناف وليست جزء كلام أو تفسيرا له.
ب-نصب”صراطك” في قوله تعالى :﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴿١٦﴾
يورد أبو حيان الآراء المتعلقة بنصب (صِرَاطكَ)،ويحصرها في ثلاثة أوجه،ويعلق على كل حالة يذكرها :
- يمضي التوجيه الأول، وهو رأي الزَّجَّاج، إلى اعتبار “صِرَاطكَ” منصوبا على إسْقَاط الخَافِض،معتمدا في ذلك على المتعارف عند العرب :(ضَرَبَ زيد الظَّهْرَ والبطنَ ، أي : على الظَّهْرِ والبَطْن ).وتبعا لذلك، يمكن أن نؤول المعنى ب :لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ على صِرَاطك ٱلْمُسْتَقِيم. ويرد أبو حيان على هذا الطرح موضحا أن حَرْفَ الجرِّ لا يطَّردُ حَذْفه،بقوله “وإسقاط حرف الجر لاينقاس في مثل هذا”.[45]
- ويتضمن التوجيه الثاني اعتبار صِرَاطكَ منصوبا على الظَّرفِ ،إذ يصبح المعنى: لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ .وهذا كذلك توجيه ضعيف في نظر أبي حيان على اعتبار أن (صِرَاطكَ ) ظرف مكان مُخْتَصّ، والظَّرْفُ المكانيُّ المختصُّ ، لا يصل إليه الفِعْلُ بنفسه ، بل بحرف الجر(في). يقول أبو حيان،بصدد ذلك :” وهذا أيضاً تخريج فيه ضعف لأنّ )صراطك( ظرف مكان مختص وكذلك الطريق فلا يتعدّى إليه الفعل إلا بواسطة في، وما جاء خلاف ذلك شاذّ أو ضرورة”.[46]
- أما التوجيه الثالث ،وهو الذي يتبناها أبو حيان،فهو أنَّ “صراطك”منصوبٌ على المفعول به؛ لأن الفِعْلَ قبله ضُمِّن معنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ.ويتغير المعنى ليصبح : لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه[47].
وبذلك،تصبح المعاني المحصل عليها بخصوص نصب (صراطك) كما يلي :
- لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ على صِرَاطك ٱلْمُسْتَقِيم.
- لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ.
- لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه.
يبدو،من خلال تأملنا لهذه المعاني، أن التوجيهين “الأول والثاني” متقاربان،إلا أن الثالث يختلف عنهما.وهو في نظري يبقى احتمالا بعيدا ،على اعتبار أن إبليس لايرغب أصلا في التزام الصراط المستقيم،والقعود عليه.
على سبيل الختم:
لقد بدا واضحا تأثير علم النحو في تفسير القران الكريم ،والنماذج التي اشتغلنا عليها دليل على ذلك،فكلما تغير التعليل،تغيرت معه الدلالة.ويمكن أن نخلص،من خلال ما سبق، إلى ما يلي :
– أولا إن تأمل المعاني التي جاءت عليها حروف الجر في القران الكريم، يساعد على فهم الآية، ويؤدي إلى تفسيرها تفسيرا واضحا.
– ثانيا يحتمل الحرف الواحد في الآية وجوها كثيرة،وكل مفسر يختار الوجه الذي يراه مناسبا حسب مرجعيته وتذوقه للآية،مما يتيح تنوعا دلاليا يساهم في الإفصاح عن معناها.
– ثالثا تساهم ظواهر نحوية عديدة في توجيه الدلالة القرآنية،ومثال ذلك مايؤديه العطف من وظيفة تتمثل في تبيان نوع التعالق بين العبارات.كما أن تغير الحركات الإعرابية لبعض الألفاظ مثل (صراطك) كفيل بتغير معنى العبارة كلها.
المصادر والمراجع :
– القرآن الكريم برواية ورش.
– أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، تحقيق عادل احمد عبد الموجود ووعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط1، 1993
– الزمخشري ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل،تح عادل احمد عبد الموجود وعلي محمد معوض ط 1، 1998
– أبو السعود ،تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم،دار إحياء التراث العربي،بيروت،
– الطاهر بن عاشور ،التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر 1984
– ابن هشام الأنصاري المصري ،مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب،تح مازن المبارك و محمد علي حمد الله ، دار الفكر بيروت، ط5، 1979
الهوامش:
[1] -من الآية 16 إلى الاية21 من سورة الأعراف
[2] -نفصد الزمخشري ,الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل,تح عادل احمد عبد الموجود وعلي محمد معوض, ط 1, 1998 – أبا حيان الأندلسي, البحر المحيط, تحقيق عادل احمد عبد الموجود ووعلي محمد معوض,ط1, 1993 دار الكتب العلمية بيروت لبنان, – أبا السعود ,تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم,دار إحياء التراث العربي,بيروت,- الطاهر بن عاشور ,التحرير والتنوير, الدار التونسية للنشر 1984
[3] – هذه الحروف هي الباء,واللام,ومن,وعن
[4] – الآيات من 16 إلى 21 من سورة الأعراف
[5] – الكشاف,2 /427-428
[6] -ينظر جل التفاسير نذكر منها تفسير البحر المحيط لأبي حيان, تفسير الكشاف للزمخشري ,والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور…الخ
[7]– ذكر ابن هشام الأنصاري المصري في الباء أربعة عشر معنى منها : الإلصاق والتعدية ,الاستعانة و السببية ,المصاحبة ,الظرفية, البدل ,المقابلة , المجاوزة , الاستعلاء, القَسَم” مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب,تح مازن المبارك ومحمد علي حمد الله ,ط5, 1979 دار الفكر بيروت, ص 137-150
[8] -سورة الأعراف,الآية 16,
[9] -يقول أبو حيان”والظاهر أن الباء للقسم وما مصدرية”البحر المحيط, 4/275
[10] -هذا المعنى استقيناه من تقدير أبي السعود حيث قال “إن إغواءَه تعالى إياه أثرٌ من آثار قُدرتِه عز وجل وحُكمٌ من أحكام سلطانِه تعالى، فمآلُ الإقسام بهما واحدٌ،” تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ,3/219
[11] -ويضيف أن ما استفهامية,كأنه استفهم عن السبب الذي أغواه”الكشاف,2/429
[12] – الكشاف,2 /427-428
[13] -نفسه,2/428
-[14] يقول أبو حيان” ليس حكماً مجتمعاً عليه ، بل في ذلك خِلافٌ “4/275
[15] -نفسه , 4/275
[16] -الطاهر بن عاشور ,التحرير والتنوير, الدار التونسية للنشر 1984 ,8/46
[17] – من معاني (من) : تأتي مرادفة ل (عن) ومرادفة ل (في) وبمعنى (عند) ومرادفة للباء ومرادفة ل(على) وبمعنى ربما إذا اتصلت بما..”مغني اللبيب ص419-425 . وتأتي )عن( على ثلاثة أوجه : احدهما أن تكون حرفا جارا ,ثانيهما أن تكون حرفا مصدريا,ثالثهما أن تكون اسما بمعنى جانب.وذكر ابن هشام للجارة عشرة معان منها : المجاوزة,البدل ,الاستعلاء التعليل,مرادفة بعد الظرفية..”مغني اللبيب ص196-199
[18] -سورة الأعراف,الاية17
[19] – “الأيمان جمع يمين، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشّمس، تعارفه النّاس، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضّابط الذي ذكرناه، فاليمين جهة يتعرّف بها مواقع= =الأعضاء من البدَن يقال العَيْن اليمنى واليد اليُمنى ونحو ذلك.. والشّمائلُ جمع شِمَال وهي الجهة التي تكون شِمَالاً لمستقبل مشرِق الشّمس، وهو جمع على غير قياس”عن التحرير والتنوير 8/50.
[20] -الكشاف, 2/430
[21] -نفسه 2/430
[22] -نفسه 2/430
[23] – نفسه2/430
[24] – يبدو,في نطاق هذا الحكم, أن الجانب العقدي حاضر هنا بقوة, فبالرغم من أن رأي الزمخشري لقي استحسانا لدى أبي حيان, إلا أن هذا الأخير اكتفى فقط بذكر (لابأس به), في إشارة إلى التقليل من قيمة النتيجة التي توصل إليها الزمخشري،ينظر البحر المحيط ,4/278،
[25] -نفسه,4/278
[26] -نفسه ,4/278
[27] -البحر المحيط , 4/278
[28] -اللام ثلاثة أقسام : عاملة للجر,وعاملة للجزم,وغير عاملة. والجارة لها اثنان وعشرون معنى نذكر منها :الصيرورة ,التعليل ,مرادفة ل (في), على,مع,بعد,من,عند,إلى..”مغني اللبيب ص274-291
[29] -سورة الأعراف,الآية 18
[30] -البحر المحيط,4/278
[31] – للطاهر بن عاشور رأي آخر بخصوص جواب القسم المحذوف,فهو يعتبر(لأملان) جواب القسم مدلول عليه بلام التوطئة.ويضيف في شان ضمير(منهم ومنك)فيقول :” غلب في الضمير حال الخطاب لان الفرد الموجود من هذا العموم هو المخاطب وهو إبليس” التحرير والتنوير,8/51
[32] – البحر المحيط,4/278
[33] -نفسه 4/279
[34] -الكشاف, 2/431
[35] -البحر المحيط ,4/279
[36] -ذكره في كتابه « اللَّوَامِح في شواذ القراءات» “البحر المحيط,4/279
[37] -يقول الطاهر بن عاشور” مذءوم اسم مفعول من ذَأمه – مهموزاً -إذا عابَه وذمَّه ذَأماً وقد تسهل همزة ذأم فتصير ألفاً فيقال ذَام ولا تسهل في بقيّة تصاريفه.و مدحور مفعول من دَحره إذا أبعده وأقصاه، أي: أخرجُ خروجَ مذمُوم مطرود، فالذّم لِمَا اتّصف به من الرّذائل، والطّرد لتنزيه عالم القُدس عن مخالطته”. التحري والتنوير,8/51
[38]– الملاحظ في تتمة الآيةً {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ }توظيف الحق سبحانه أسلوب الالتفات,فعندما اجتمع ضَمِيرا غَيْبَة وخطاب, غلب الخطابُ فقيل( منكم )أي منك وممن تبعك” البحر المحيط ,4/279
[39]– البحر المحيط,4/279
[40] -وتسمى أيضا لام العاقبة ولام المال “مغني اللبيب, ص282
[41] -بالرجوع إلى رأي الطاهر بن عاشور
[42] – التحرير والتنوير,8/57
[43] – التحرير والتنوير,8/49
[44] -نفسه ,8/58
[45] -البحر المحيط,4/276
[46] -البحر المحيط,4/276.وقد أدرج أبو حيان,في السياق نفسه,رأي ابن الطَّرَاوَةِ الذي جعل ( الصِّراط )و ( الطَّريقَ ) في هذين الموضعين مكانين مُبْهَمَيْن .واعتبر أيضا هذا القول مردودا عليه بقوله :” وما ذهب إليه أبو الحسين بن الطّراوة من أنّ الصراط والطريق الطرف مبهم لا مختص ردّه عليه أهل العربية “.
[47] -نفسه,4/276