حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

البلاغة العربية…ومفارقة اللسانيات النصّيّة.. بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب

لا يكون الكلامُ بليغًا حتَّى يتوفر فيه شرطان: أحدُهما: الفصاحةُ، والآخرُ: المطابقةُ، وهذا ما انتهى إليه المتأخرون في تعريفهم للبلاغة، كما جاء في تعريف الخطيب القزويني”مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته”([1]).

فلا بلاغةَ بدون فصاحةٍ،وهذا يفسِّر لنا سرَّ استدراك الجاحظ على العتابيّ في تعريفه للبلاغة “كل ما أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ”([2])، وحجة الجاحظ في تعليقه على كلام العتابيّ؛ أنّ ذلك التعريف يقلل من قيمة البيان واللسان، لأننا نستطيع أن نفهم إشارات الأخرس، وحمحمة الفرس، وعواء الكلاب، وغيرها من الحيوانات والطيور، فاشترط الجاحظ في الإفهام أن يكون بلفظ فصيح؛ لأنَّ عمومية التعريف تجعل اللكنة، والفصاحة، والخطأ، والصواب، والإغلاق، والإبانة، والملحون، والمعرب، كله سواء وكله بيانًا، وكيف يكون ذلك كله بيانًا؟! فنراه يقول:”وإنما عنى العتابي: إفهامك حاجته على مجاري كلام العرب الفصحاء”([3]).

والتزام البلاغة العربية بالنصِّ الفصيح، من أجْلِ توحيد اللسان العربيِّ وما يتبعه من توحيد الثقافة والفكر والمجتمع والعبادة، ومن ثمَّ فالبلاغة العربيَّة تسعى إلى تأسيس رؤيةٍ عربيةٍ تتجلَّى فيها وحدةُ اللغة العربية، كالصلاة والصوم والحج، وهو مقصدٌ من أجلِّ مقاصد البلاغة العربية، وأنَّ العاميَّة على انتشارها واتساع محيطها لا تحمل ما تحمله الفصحى من قيم العرب وثقافتهم وميولهم واتجاهاتهم ومعارفهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولا يُتصور منها أن تكون وحدةً للتفكير أو نقطةَ تلاقٍ في المقاصد والغايات؛ لأنَّها لا تعدو إلَّا أن تكون نتاج تجمع لهجي في فترةٍ زمنيةٍ معدودة ومساحة جغرافية محدودة، بخلاف الفصحى الممتدة عبر عصورها المختلفة وأطرافها المتشعبة المترامية.

إضافة إلى ما سبق…فإنَّ البلاغة العربيَّة لم تُعْنَ بفصيح القول إلَّا لأنَّه يقترب من لغة القرآن وأساليبه، وبها يمتاز كلامٌ عن كلامٍ ومعانٍ عن معانٍ، ولذا ظلت النصوص الفصيحة هي عناية البلاغيين، وميدان الدَّرسِ البلاغي، وبقيتْ معاييرُ الجودة في الألفاظ هي الشرط الأساس الذي لا يفارق البلاغة منذ كلام الجاحظ (مجاري كلام العرب الفصحاء) حتى تمَّ التأكيدُ على ذلك في تعريف المتأخرين للبلاغة العربيَّة: مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته([4]).

ولا بلاغة بدون مطابقة: والمراد بالمطابقة: مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى حال المخاطب، وأحوال المخاطب متعددة، لا يشبه حالٌ حالاً، ولا مقامٌ مقامًا، ومن هنا قيل: لكل مقامٍ مقالٌ، وأكدتْ البلاغة على هذا المعنى من خلال مباحثها ومسائلها، فليست المزيَّة في التقديم أو التأخير، أو الذكر أو الحذف، أو الإضمار أو الإظهار، أوالتعريف أو التنكير، أو الفصل أو الوصل، أو الإيجاز أو الإطناب أو المساواة، أو سائر فنون البلاغة على الإطلاق إذا لم يتطلبها المقام، ويستدعيها السياق، وإلا فمن أين لنا أن ندرك فضلَ كلامٍ على كلام ونميَّزَ نظمًا على نظم إلَّا من خلال كون الشاعر قدَّمَ وأخَّرَ، وعرَّفَ ونكَّرَ، وأظهرَ وأضمرَ، وفصلَ ووصلَ، وأوجزَ وأطنب… استجابةٌ منه للمقام ومراعاةٌ للحال؟!

وبهذين الشرطين(الفصاحة- المطابقة) فارقتْ البلاغةُ العربيَّة لسانيَّات النصِّ من زاويتين:

الأولى: أنَّ علم البلاغة منذ بدايته مرتبط بفصيح القول شعرًا ونثرًا، ولعلَّ هذا يوضح لنا سبب عدم انتشاره؛ حيث وضع حاجزًا بينه وبين دراسة العاميِّ المبتذل، والغريبِ الوحشيِّ، والمخالفِ لقواعدِ النحو، والمختلِّ نظمُه سواء من جهة لفظه أم من جهة معناه، فهو لا يدرس الأحاديث اليوميَّة واللهجات العاميَّة …بخلاف علم النصِّ الذي يعني بحكم اتِّساعِ مدلولِه دراسةَ النصوص بكافة أنواعها، الفصيحِ وغير الفصيحِ، ومن ثمَّ يدخل تحته عددٌ هائلٌ غيرُ محدود من النصوص: منها المحادثاتُ اليوميةُ والأحاديثُ العلاجيةُ، وسائرُ الأجناسِ الأدبيةِ كالقصة والأقصوصة والرواية والمسرح … وسائر أنواع الخطابات الإعلاميَّة والرياضيَّة والتسويقيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة.

الثانية: أنَّ علم البلاغة علمٌ معياري مرهون بالمطابقة، فلا يعدُّ الكلام بليغًا إلَّا إذا طابق الحال والمقام، بخلاف علم النص الذي لم يراعِ مبدأ المعيارية، فإنَّه وإن راعى المطابقة(المقامية) ضمن معاييره السبع التي نادى بها (دي بوجراند) إلَّا أنَّ هذا لايمنع من الدِّراسة، فالنصوص عنده قابلة للتحليل أيًّا كان نوعها فصيحةً أم غيرً فصيحةٍ، مطابقةً أم غيرً مطابقةٍ.

======================

[1]ـــ ينظر شروح التلخيص –  دار الكتب العلمية- بيروت- بدون تاريخ- الجزء الأول- ص122.

[2] ــ البيان والتبيين جـ1 صـ112.

[3]ــ البيان والتبيين جـ1 صـ148.

[4]ـــ ينظر شروح التلخيص – دار الكتب العلمية- بيروت- بدون تاريخ- الجزء الأول- ص122.

يتبع…

أ.د صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد

ووكيل كلية العلوم الإسلامية

البريد الإلكتروني:saleh_hahmed@hotmail.cim

https://www.youtube.com/channel/UCSUJyz_yZLfFHnc9wyFoKiQ

https://www.facebook.com/saleh.ahmedabdelwahab.5

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu