ذكرنا في المقال السابق أثر الكلمة المحفزة على عقول الناشئة، وكيف تتسلل إلى أفئدتهم لتصنع منهم رجالاً مؤهلين لتحمل راية القيادة والريادة في صفوف المجتمع.
واليوم مع صورة أخرى من صور تأثير الكلمة في الأفئدة والعقول، وكيف تسهم في بناء إنسان ذى قدرات خاصة، يقدم النفع والخير لدينه ومجتمعه.
كثيراً ما يتعثر الإنسان، ويقع في الخطأ والنسيان، وذاك أمر جبل عليه البشر جميعاً، فليس ثمة شخص ينجو منه خلا الأنبياء والرسل، والمخطئ شخص تائه شارد يحتاج إلى من يأخذ بيده ويعالج خطئه، فينبغي أن تكون الكلمة بلسماً ناجحاً، تقدر بقدر دقيق، وتوزن بميزان حساس، فلا تغض الطرف عن الخطأ، ولا تجرح صاحبه وتسخر منه.
والمعلم كالطبيب الحاني مع مريضه، والأب الحاني على ولده، لا هم لديه إلا إصلاح الخطأ، وإن تفاوتت طريقة العلاج مع كل شخص حسب خطئه وتفكيره وأثره وقربه من المعلم أو بعده عنه.
وإن تراثنا مليء بنماذج مشرقة لرواد صنعتهم كلمات ألقيت إليهم إصلاحاً لخطأ وقعوا فيه، فكانت الكلمة نبراساً يضيء لهم الطريق، وموجهاً هادياً إلى طريق النبوغ والريادة، وبوصلة تغير مسار حياتهم نحو السمو والكمال … فكان الخطأ أول خطوات النجاح، بل بداية الترقي في مصاعد الريادة والقيادة.
ولا أحد منا يجهل سيبويه وقدره في علوم العربية إذ هو حجة العربية، وأول من بسط علم النحو، ولم يشذ عن كتابه في علم النحو شيء، وهو كتاب يغني عن غيره، فلا يحتاج من فهمه إلى كتاب آخر وقد كان لشهرته وفضله إذا قيل: (الكتاب)، فلا يشك أنه كتاب سيبويه وسماه الناس قديماً: قرآن النحو.
لكننا ربما جهلنا سبب هذا النبوغ والتفرد الذي حازه سيبويه، لقد كان وراء ذلك خطأ في قواعد العربية، وما كان من توجيه شيخه حماد له.
لقد كان الفتى صغيراً يطلب الحديث، وبينما هو يقرأ على شيخه قوله (): ما من أحد من أصحابي إلا لو شئت لأخذت عليه في خلقه ليس أبا الدرداء ” فقرأه سيبويه: ليس أبو الدرداء فما كان من شيخه إلا أن صاح به: لحنت يا سيبويه، إنما هذا استثناء فقال سيبويه: والله لأطلبن علماً لا يلحنني معه أحد “.
ومن هذا الخطأ، بدأ ذلك التحدي، وبدأت معه مسيرة ذلك العالم اللغوي الذي يُعدُّ علامة بارزة في تاريخنا الإسلامي المشرق، ليس لعلمه ونبوغه اللغوي وحسب، بل لأنه ربما أول عالم يؤسس علماً في لغة غير لغته.
وما حدث مع إمام العربية سيبويه، تكرر مع فيلسوف العربية ابن جني فقد ذكر الرواة في بدء اتصاله بأستاذه، أن ابن جني وهو شاب كان يدّرس العربية في جامع الموصل، فمر به أبو علي الفارسيّ، فوجده يتكلم في مسألة علمية دقيقة، فاعترض عليه أبو علي قائلاً: تزببت وأنت حِصْرِم، فتبع أبا علي، حتى نبغ بسبب صحبته، وبلغ من أمره ما بلغ، حيث بدا علمه وفضله في كتبه ومباحثه التي توفر عليها وأحسن عرضها … وقد فتح من العربية أبواباً لم يتسن فتحها لسواه، ووضع أصولاً في الاشتقاق، ومناسبة الألفاظ للمعاني، وإهمام ما أهمل من الألفاظ … وغير ذلك.
وما كان وراء ذلك إلا تلك الكلمة التي أرشدت الشاب إلى صوابه، وأعادت الأمر إلى نصابه (تزّببت وأنت حِصْرِم) وهو مثل طريف يعني أن التلميذ تصدر للتدريس قبل أن تكتمل أدواته، ولم يدخل التلميذ في سفسطة فارغة مع الشيخ، كما يحدث كثيراً في مثل هذه المواقف، بل اتخذ من تلك الكلمة الموجعة طاقة دافعة نحو التفرد والتميز، فتوثقت صلته بشيخه الذي أبان له عن مكامن النقص عنده، وكان بإمكانه ألا يفعل، وأن يتجاهل كلمة الشيخ، لكنه لم يفعل رغبة في أن يتبوأ في مجاله منزلة شيخه إن لم يبذّه.
تقول الرواية: إن ابن جني – بعد ذلك – كان يظهر من التعلق بشيخه والتقبل لرأيه والانتفاع بعلمه أحسن ما يظهر تلميذ لأستاذه، وهو لا يفتأ في كتبه يذكر شيخه وعلمه، ويرجع علمه ونبوغه إلى فضل أستاذه.
ومثل هذا الذي حدث مع هذين العلمين قد حدث مع كثير من روادنا وأعلامنا.
يحكي أبو زيد النحوي عن نفسه فيقول: كان الذي حداني على طلب الأدب والنحو أني دخلت على جعفر بن سليمان، فقال: ادنه، فقلت: أنادنىّ، فقال: لا تقل أنادنيّ، قل: أنا دانٍ.
ومثل هذا حدث مع الكسائي عندما عوتب في لحن وقيل له: أتجالسنا وأنت تلحن فكان من كبار النحاة، ومع حمزة الزيات، الذي لقب بهذا اللقب لمَّا قرأ في صغره على شيخه (ذلك الكتاب لا ريب فيه) بالزاي لا بالراء فقال له أبوه: دع المصحف وتلق عن أفواه الرجال، ففعل، فكان من كبار القراء.
هكذا كانت عزائم أولئك الرجال، وتلك كانت طبائعهم التي تأنف من الخطأ وإذا قدر عليهم، جعلوه درجا في مصاعد الكمال، بما وهبهم الله من نفوس أبيّة وهمم علية، ومرشدين كانت كلماتهم بلسماً ناجعاً لتلك الأخطاء، وحافزاً قوياً على أن يتبوأ هؤلاء قمة المجد العلمي والفكري.