حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

إعجاز الترتيب في قصة آدم عليه السلام دراسة بلاغية [الحلقة الأولى] بقلم الأستاذ الدكتور/ إبراهيم الهدهد

أستاذ البلاغة والنقد ورئيس جامعة الأزهر السابق

مقدمة

اللهم إني أسالك أن تلهمني فهم كتابك، وأن ترزقني تدبر آياته، وأن ترشدني إلى فهم مقاصده، وأن تصرف عني هم الدنيا، وأن تجعلني ممن همه الصدق، وبغيته الحق، وغرضه الصواب، وأن تغفر لي ولوالدي، وأهلي، وولدي ومشايخي، كما أسالك يارب أن تصلي علي سيدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن ترضى ياربنا عن الصحابة الأخيار، والأئمة الأبرار، إنك ـ وحدك ـ ولي ذلك والقادر عليه، وبعد

فهذا بحث في الذكر الحكيم هدى إليه طول معايشة كتاب الله، وتدبر آياته، واستجلاء أسرار بيانه،وكان من توفيق الله لي أن جعل بحوثي كلها ـ إلا ما ندر ـ في الذكر الحكيم،وقد استوقفني ما في الذكر الحكيم من توزع قصة النبي الواحد على كثير من سور الذكر الحكيم، وقد قرأت أجوبة الأئمة في ذلك فلم أجد فيها مقنعا ـ وقد قاموا بواجبهم رحمهم الله وما قصروا ـ فمن قائل إن ذلك من باب التفنن في أساليب عرض القصة،ومن ذاهب إلى أن ذلك من التكرار تلاؤما مع رغبات القارئين، غير أني رأيت تراكيب القصص في الذكر الحكيم تهدي إلى إعجاز في الترتيب يدق فهمه، ويخفى سره، فهو ـ عند التدبر والنصح لكتاب الله ـ من البراهين القاطعة على أن ترتيب المصحف الشريف بتوقيف من الله ـ عز وجل ـ وليس لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا صحابته الأخيار شئ في هذا الترتيب، وقد قام هذا البحث على رصد فروق التراكيب في قصة آدم ـ عليه السلام  وتأمل التراكيب معبرنا لفقه أسرار الترتيب، فإن أصبنا في شئ من ذلك فالفضل لله وحده، وإن كانت الأخرى فإني أبرأ إلى الله من أن أكون قصدت إليه، والله ولي التوفيق.

 

تمهيد

أقوال أهل العلم في توزع قصص النبيين في سور الذكر الحكيم

تحدث أسلافنا عن سر توزع قصص النبيين في عدة سور، وتوزع قصة النبي الواحد على سور متعددة، وقد كثرت أقوال والمعاصرين في الكشف عن هذا السر، ويمكن إجمال ذلك في سطور :

1 ـ أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة، ولا أحدث مللا فباين بذلك كلام المخلوقين.

2 ـ أنه ألبسها زيادة، ونقصانا ، وتقديما وتأخيرا ليخرج بذلك الكلام أن تكون ألفاظه واحدة بأعيانها فيكون شيئا معادا فنزّهّه عن ذلك بهذه التغييرات .

3 ـ المعاني التي اشتملت القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير فيجد البليغ ـ لما فيها من التغيير ـ ميلا إلى سماعها لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.

4 ـ ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد، وقد كان المشركون في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبون من اتساع الأمر في تكرار هذه القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم ، وبيان وجوه التأليف فعرفهم الله ـ عز وجل ـ أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية، ولايقع على كلامه عدد.

وهو كلام بدر الدين الزركشي ـ رحمه الله ـ في البرهان وهو خلاصة أقوال السلف من قبله ([1]) ومما ذكر أيضا عند غير الزركشي فيما نقله السيوطي في الإتقان :

5ـ أن الرجل في فجر الإسلام قبل أن يكمل نزول القرآن كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يسمعون غير الذي سمع الأول، وليس بينهم ما يتواصلون به حتى يتناقلوا ما سمع كل واحد، فلولا تكرار الآية، وتكرار القصة لوقع كل منها إلى جماعة غير الأولى.([2])       

  ومثل هذا الوجه لايصمد أمام ترتيب المصحف الشريف، وإنما يكون ذلك وجها مقبولا حال التنزيل.

6 ـ ذكر ابن قتيبة ما خلاصته أن هذا التوزيع من باب التيسير على الأمة، وأن التدريج من طرائق التيسير.([3])

 وهو ما لايمكن قبوله وجها لتوزع قصص النبيين وحده، وإنما يقبل وجها لنزول الذكر الحكيم نجوما.

7 ـ وللغرناطي ـ رحمه الله ـ كلمة نفيسة في هذا السياق، حيث قال:”فإن قلت: ماوجه ورود القصة الواحدة موجزة مرة، ومطولة أخرى؟ قلت: ليحصل من ذلك الاطلاع على عليّ البلاغة، وجلالة النظم، وعلى الفصاحة في طرفي الإيجاز، والإطناب، فإن الفصيح البليغ من البشر إن رام هذا لم يف في الطرفين بما يريده، ووضح التفاوت في هذا بوجه، فإن قلت: فما وجه تقديم الموجز على المطول؟ قلت: شبه ذلك بالمجمل من الكلام والمفصل، وإنما يرد التفصيل بعد الإجمال، فهذا الجواب منزل على الترتيب الثابت”([4]) أي: ترتيب المصحف،وهذا يعني أن الإجمال، ثم التفصيل من أسباب ترتيب المصحف.

8 ـ ولبدر الدين بن جماعة كلمة أخرى تضاف إلى كلمة الغرناطي النفيسة حيث يقول:”مسألة: ما سبب اختلاف الألفاظ وزيادة المعاني، ونقصها في بعض قصص آدم دون بعض، وكذلك في غير ذلك من القصص كقصة موسى، مع فرعون ونوح وهود وصالح، مع قومهم، وشبه ذلك؟ جوابه: أما اختلاف الألفاظ فلأن المقصود المعاني؛ لأن الألفاظ الدالة عليها لم تكن أولا باللسان العربي، بل بألسنة المتخاطبين حالة وقوع ذلك المعنى، فلما أديت تلك المعاني إلى هذه الأمة أديت بألفاظ عربية تدل على معانيها، مع اختلاف الألفاظ، واتحاد المعنى … .. وأما زيادة المعاني، ونقصها في بعض دون بعض، فلأن المعاني الواقعة في القصص فرقت في إيرادها، فيذكر بعضها في مكان، وبعضها في مكان آخر”([5]) وهذا مما يكشف عن سبب توزيع قصة النبي الواحد في القرآن الكريم.       

وقد حاول د/ فضل حسن عباس الجواب عن سؤال هو : هل في القصص القرآني تكرار ؟ وانتهى إلى ما خلاصته أن واقع القصص القرآني يقضي بعدم التكرار لأمور منها :

1ـ أنه لم تلتزم القصة القرآنية طريقا واحدا من حيث الطول والقصر والإجمال، والتفصيل ، فهناك القصة المفصلة كما في قصة موسى في سورة الأعراف ،وقصة نوح في سورة هود، وهناك القصة المجملة كما في قصة نوح في سورة الأعراف، وقصة موسى في سورة هود فلقد أجملت كل من السورتين ما فصلته الأخرى.

2ـ أن كل قصة قرآنية مجملة أو مفصلة ، قصيرة أم غير قصيرة جاءت تفي بالغرض الذي سيقت من أجله، فليس قصر القصة يشعر بشئ من النقص، بل ربما يذكر في القصة القصيرة ما لايذكر في غيرها، ولعل خير مثال على ذلك ما ذكرته قصة نوح في سورة العنكبوت.

3ـ أن بعض القصص القرآني لم يذكر إلا مرة واحدة، وبعضه الآخر ذكر أكثر من مرة فالقصة التي ذكرت أكثر من مرة في كتاب الله كانت ذات صلة وثيقة بقصة الدعوة والدعاة إلى الله .

4ـ أن بعض السور القرآنية ذكر فيها أكثر من قصة من النوع السابق ذكره ، وقد جاءت تلك القصص التي لم تذكر مرة واحدة على ترتيب بديع ، وينظر في القصص التي تضمنتها سورة الكهف فقد جاءت مرتبة ترتيبا بديعا.

5ـ أن القصص الذي ذكر أكثر من مرة في كتاب الله لاتجد منه قصة واحدة ذكرت في سورتين اثنتين بطريقة واحدة ، بل نجد كل قصة جاء فيها ما لم يجئ في الأخرى ففي كل قصة من المشاهد والجزئيات والأحداث ما تفردت به السورة التي ذكرت فيها القصة([6])

وعلى كثرة ما قالوه لم أرهم يتعرضون قديما ولاحديثا عن سر الترتيب القرآني لتوزع قصة النبي الواحد في عدة سور.   

والمؤلفات التي تناولت مشتبه النظم كثيرة أيضا، لكنها لم تهتم بما قصدت بالبحث إليه، وفي بعضها إلماعات لأسرار الترتيب، ومن هذه المؤلفات :

1ـ البرهان في توجيه القرآن لما فيه من الحجة والبيان لحمزة بن نصر الكرماني (ت بعد 500هـ) كتاب مطبوع

2ـ درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز للخطيب الإسكافي (ت606هـ) كتاب مطبوع.

3ـ كشف المعاني في المتشابه من المثاني لمحمد بن جماعة (ت733هـ ) كتاب مطبوع.

4ـ ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل لابن الزبير الثقفي الغرناطي وهو أوفاها وأجمعها (ت708هـ) مطبوع .

5 ـ فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن لزكريا الأنصاري (ت/926هـ)

6ـ إرشاد الرحمن لأسباب النزول، والمتشابه،وتجويد القرآن لابن عطية الأجهوري (ت/1110هـ)

7ـ متشابه النظم في قصص القرآن الكريم مقارنة وتحليل رسالة دكتوراة للدكتور عبد الغني الراجحي بكلية أصول الدين بالقاهرة.

8ـ التكرار بلاغة د/إبراهيم الخولي، ط،دار التأليف والترجمة والنشر.

9ـ متشابه القرآن دراسة موضوعية د/ عدنان زرزور ، ط، دار الفن، بيروت.

10ـ مشتبه النظم في القرآن الكريم رسالة دكتوراة د/ عبد العزيز خضر مخطوطة بكلية اللغة العربية بالقاهرة.

11ـ بلاغة التكرار في القرآن الكريم دكتوراة للدكتور / محمود عبد الحميد هوى ، مخطوطة بكلية اللغة العربية بالقاهرة.

أضف إلى ذلك المؤلفات التي عنيت بتناسب السور، ويأتي في مقدمتها البرهان في تناسب سور القرآن لابن الزبير الثقفي الغرناطي، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي، وتناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي، ومفاتيح الغيب للفخر الرازي، وغير ذلك

هذا، وإن الناظر في هذه المؤلفات ـ على ما غنيت به ـ لايجد بغيته في البيان عن سر ترتيب قصة النبي الواحد في الذكر الحكيم، وهو ما يطمح هذا البحث إليه، ويوجه همته له فالله المستعان على ذلك، وهو ـ وحده ـ الموفق إليه إنه ولي ذلك والقادر عليه.

=================================

([1] ) ينظر البرهان للزركشي 3 / 11 : 28 .

([2] ) ينظر الإتقان 5/1655 ط، مجمع الملك فهد، و بلاغة التكرار في القرآن الكريم ـ دكتوراة د/ محمود عبد الحميد هوى مخطوط بكلية اللغة العربية بالقاهرة تحت رقم 5200 سنة 1989م 2/ 904 وما بعدها.

([3] ) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 180 تحقيق السيد أحمد صقر، ط، الحلبي.

([4])  ملاك التأويل  لابن الزبير الغرناطي 1/491.

([5])  كشف المعاني في متشابه المثاني لبدر الدين بن جماعة 103.

([6] ) ينظر : القصة القرآنية ، مقال للدكتور / فضل حسن عباس منشور على الانترنت www.balagh.com

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu