تابع/ الأنماط التركيبية لأسلوب الدعاء على الإنسان
4 ـ أساليب تبدأ بأسماء جرت مجرى المصادر
ومن أمثلة الأساليب التي تبدأ بأسماء[1] :
ـ تُرباً وجَندلاً فإن أدخَلْت لك فقلت تُرْباً لك .
ـ ومن ذلك قولهم : فاها لِفيك ، وفاهاً إنما هو : اسم للفَم .
يقول سيبويه : “هذا باب ما جرى من الأسماء مجرى المصادر التي يدعى بها وذلك قولك: ترباً، وجندلاً، وما أشبه هذا”[2].
ويكون التقدير : ” ألزمك الله وأطعمك الله تربا وجندلا … واختزل الفعل هاهنا ؛ لأنهم جعلوه بدلا من قولك : تربت يداك وجُندلت “[3].
ويرى ابن سيده : أن ” هذا الحيّز يُدعى فيه بجواهر[4] لا أفعال لها “[5]
وعليه : ” التُرْب والجنْدَل وهما نوعان من جنس الجوهر… وفاهاً إنما هو اسم للفَم ، وليس في شيء من ذلك فعل يصير مصدراً له ، ولكنهم أجروه في الدعاء مجرى المصادر التي قبل هذا الباب ،وقدّروا الفعل الناصب كأنه قال : ألزمك الله أو أطعمَك الله تُراباً وجندَلاً ، وما أشبه هذا من الفعل”[6]
وخطأ ابن مالك من قال بمصدرية هذه الأسماء فقال :” ومن حكم على هذه الأسماء بالمصدرية فليس بمصيب ولو نال من الشهرة أوفر نصيب. لكن الموضع بالأصالة للفعل ثم للمصدر ثم للحال ثم للمفعول به، فمن قال تُرْبا لك وجَنْدَلا فكأنه قال ترِبت وجُنْدلتَ، ومن قال فاها لفيك فكأنه قال دُهيت، فلو رُوعي في النيابة الدرجة الأولى لقيل تُربا لك، وجَنْدلةً ودهيا. ولو رُوعيت الدرجة الثانية لقيل متروبا ومجندلا ومدّهيا، لكنهم راعوا الدرجة الثالثة فجيء بأسماء الأعيان “[7].
وقال بعض النحويين “فاهاً لفيه، لما علموا استعماله في معنى الخيبة والدهي حتى يصير التركيب فيه نسياً منسياً أجروه مجرى المفرد”[8]
والخلاصة في النوعين الأخيرين أن الأساليب التي تبدأ بصفات نصبت هذه الصفات على الحالية ، والأساليب التي تبدأ بأسماء نصبت على المفعولية على قول أكثر النحاة .وفي ذلك يقول السيوطي : ” وَرَأى الْأَكْثَرين أَن نصب الصِّفَات الْمَذْكُورَة على الحالية الْمُؤَكّدَة لعاملها الْمُلْتَزم إضماره ، وَالتَّقْدِير: أعوذ وأتقوم وأتقعد ، وَنصب الْأَعْيَان على المفعولية بِفعل مُقَدّر، وَالتَّقْدِير: أطعمك الله أَو ألزمك تربا وجندلا ، وألزمك الله فاها لفيك”[9]
تعقيب
بعد هذا العرض التفصيلي يتضح أن من بدأ التركيب بالفعل أراد تحقق وقوع الدعاء، ومن بدأ الأسلوب بالمصدر أو الاسم منصوبا أراد : التأكيد والمبالغة والإيجاز ، ومن بدأ الأسلوب بالمصدر المرفوع فإنما أراد : الثبوت والدوام للدعاء المدعو به .
5 ـ أساليب تبدأ بنفي
وقد يأتي أسلوب الدعاء على صورة الجملة الخبرية المنفية بـ ( لا ) ، ولعل سبب اختيار ( لا ) للنفي بها أنها تأتي ” لنفي المستقبل في قولك : لا يفعل . قال سيبويه : وأما لا فتكون نفياً لقول القائل : هو يفعل ولم يقع الفعل ، وقد نفي بها الماضي في قوله تعالى : (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى )[10] …وتنفي بها نفياً عاماً في قولك: لا رجل في الدار ، وغيرعام في قولك: لا رجل في الدار ولا امرأة ، ولا زيد في الدار ولا عمرو. ولنفي الأمر في قولك : لا تفعل ، ويسمى النهي ، والدعاء في قولك : لا رعاك الله “[11].
يتبين من النص السابق أن ( لا ) تدخل على الماضي في صورتين :
الأولى : إذا تكررت نحو قول الله تعالى : (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى)
الثانية : أن تأتي في الدعاء نحو : ( لا رعاك الله )
وقد ورد في أساليب الدعاء الصورتان ، تكرار ( لا ) ، وعدم تكرارها ، وإفادتها الدعاء في الصورتين .
فمن الأولى [12]:
ـ لا ترك الله له هاربا ولا قاربا : أي لا صادرا عن الماء ولا واردا .
ـ لا ترك الله له شفرا ولا ظفرا :
ـ لا أبقى الله له سارحا ولا جارحا : السارحة : الماشية …… والجارح الفرس والحمار .
ومن الثانية [13]:
ـ لا أهدى الله له عافية : أي من يطلب رفده وفضله أي كان فقيرا .
ـ لا حمل الله عليك إلا الرخم[14] : أي أماتك الله حتى تقع عليك فتأكل لحمك .
ـ لا ترك الله له شامتة : والشوامت القوائم .
ـ لا ترك الله له واضحة : سنّاً تَضِح عند الضحك .
” لقد كان مقتضى الظاهر أنْ يدعو عليه بمثل: “اللَّهُمَّ كسِّرْ أسنانه” بصيغة الإِنشاء، لكن جاء بصيغة الخبر تفاؤلاً بأن يُسْتَجَابَ دُعاؤه”[15]
ويعلل ابن جني لمجيء الدعاء على صيغة الماضي بقوله : ” ومجيئه على صورة الماضي الواقع؛ نحو أيدك الله، وحرسك الله، إنما كان ذلك تحقيقا له وتفؤّلا بوقوعه أن هذا ثابت بإذن الله، وواقع غير ذي شك. وعلى ذلك يقول السامع للدعاء إذا كان مريدا لمعناه: وقع إن شاء الله ، ووجب لا محالة أن يقع ويجب.”[16]
يتضح مما سبق أن الدعاء جاء بصيغة الخبر أملا في تحقق وقوعه .
6ـ أساليب تبدأ بالاستفهام ( ما له …. ؟)
كثر في أساليب الدعاء أن تبدأ بالاستفهام ، في أسلوب شهير في الدعاء وهو:
( ما له …. ؟) ويعنون به : ” أَيُّ شَيْءٍ بِهِ ، وَمَا يُرِيدُ ؟ “[17] أو ” مَا شأْنُه “[18].
وقولهم : ما لَه ” مبتدأ وخبر ، وهو استفهام قصد به توبيخهم والتعجيب من حالهم”[19]
يقول ابن عاشور : “فَما لَهُمْ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ غَرَابَةِ حَالِهِمْ بِحَيْثُ تَجْدُرُ أَنْ يَسْتَفْهِمَ عَنْهَا الْمُسْتَفْهِمُونَ”[20]
فكأنهم تعجبوا أولا من شأن المَدْعِيِّ عليه ؛ لفعله ما يستدعى الدعاء عليه ، ثم دعوا عليه بجملة فعلية فعلها ماض لتحقق الوقوع .
ومما ورد في الدعاء على هذا النمط من التركيب[21] :
ـ ماله آم وعام : أي ماتت امرأته وعام هلكت ماشيته حتى يشتهي اللبن .
ـ وماله شل عشره .
ـ ما له جُدت حلائبه : أي لا كانت له إبل .
ـ ماله غالته غول.
ـ ماله جُدَّ ثَدْيُ أُمِّه . إذا دعا عليه بأن لا يكون له مثل .
ـ ما له ساف مالُه . وأساف الرجل إذا هلك ماله .
ـ ماله طال عسفه . أي : هوانه .
ـ ماله وبَّد الله به . أي : أبعده . من تأبد إذا توحش .
ـ ماله بُئِىَ بطنُه . مثل بُعِيَ . أي : شُقّ بطنُه .
ـ ماله شيب غبوقه .أي : قلت ما شيته حتى يقل لبنه فيخلطه بالماء .
ـ ماله عرن في أنفه . أي : طعن .
ـ ماله سَبِد نحرُه ووبِد.أي: سبِد من الوجدِ على المال والكسب لا يجد شيئا.
7ـ أساليب تبدأ بالجار والمجرور( عليه .. له ..)
وتقديم الجار والمجرور في هذه الأساليب يفيد القصر والتخصيص
ومن هذه الأساليب [22] :
ـ عليه العفاء : أي محو الأثر .
ـ له الويل والأليل : وهو الأنين .
ـ بفيه البرى : قال أبو علي : التراب .
ـ بفيه الأثلب : أي التراب .
تعقيب
بعد عرض أنماط التراكيب التي أتى عليها أسلوب الدعاء على الإنسان تبين أنها أتت كلها بصيغة الخبر ؛ ولعل الغرض من ذلك هو تحقق الوقوع كما وضحت سابقا . وفي ذلك يقول أحد الباحثين : ” فمن أغراض وضع الخبر موضع الإِنشاء … التفاؤل بتَحَقُّق المطلوب، كالدُّعاء بصيغة الخبر، تفاؤلاً بالاستجابة، ومنه ما يلي: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( غِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا )[23]. غَفَر: فعل ماضٍ، فالصيغةُ خبر، وقد وُضِع موضع الإِنشاء، إذ المعنى: اللَّهُمّ اغْفِرْ، والغرض التفاؤل باستجابة الدعاء”[24].
====================
[1] ـ المخصص ج 3 ص 91
[2] ـ الكتاب ج 1 ص 314
[3] ـ السابق ج 1 ص 314 ، 315
[4] ـ والمرادُ بالجواهر في عُرْفِ النحويّين الشُّخُوصُ، والأجسامُ المتشخِّصةُ . ينظر : شرح المفصل لموفق الدين الأسدي الموصلي، المعروف بابن يعيش وبابن الصانع (ت 643هـ) ج 1 ص 300 { دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان .ط . الأولى، 1422 هـ – 2001 م} .
[5] ـ المخصص ج 3 ص 391
[6] ـ المخصص ج3 ص 391
[7] ـ شرح التسهيل لابن مالك الطائي الجياني، ج 2 ص 195
[8] ـ أمالي ابن الحاجب تح/ د. فخر صالح سليمان قدارة ج 1 ص 469 { دار عمار ـ الأردن ، دار الجيل – بيروت .1409 هـ – 1989 م }
[9] ـ همع الهوامع في شرح جمع الجوامع . لجلال الدين السيوطي (ت 911هـ) ج 2 ص 128{ تح /عبد الحميد هنداوي .{المكتبة التوفيقية – مصر}
[10] ـ سورة القيامة آية 31
[11] ـ المفصل في صنعة الإعراب لأبي القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري (ت 538هـ) تح: د. علي بو ملحم ص 406 { مكتبة الهلال – بيروت . ط : الأولى، 1993م } .
[12] ـ ذيل الأمالي والنوادر ص 64 : 66
[13] ـ ذيل الأمالي والنوادر ص 65 : 69
[14] ـ الرَّخَمَةُ : طَائِرٌ يَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَهُوَ مِنْ الْخَبَائِثِ وَلَيْسَ مِنْ الصَّيْدِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْفِدْيَةُ بِقَتْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ وَالْجَمْعُ رَخَمٌ . المصباح المنير ( ر خ م ) .
[15] ـ بلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ج 1 ص 513{ دار القلم . دمشق ـ الدار الشامية بيروت . ط. الأولى 1416هـ ـ 1996م }
[16] ـ الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني ج 3 ص 335 { تح/ محمد علي النجار . الهيئة المصرية العامة للكتاب ط. الثالثة 1408هـ ـ 1988م .
[17] ـ لسان العرب ( أ ر ب )
[18]ـ السابق
[19] ـ التفسير الوسيط محمد سيد طنطاوي ج 15 ص 118{ دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة .ط .الأولى 1998م } .
[20] ـ التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور التونسي (ت 1393هـ) ج 29 ص 329 { الدار التونسية للنشر – تونس 1984 هـ }
[21] ـ ذيل الأمالي والنوادر ص 62 : 69
[22] ـ ذيل الأمالي والنوادر ص 65 ، 66
[23] ـ الحديث في صحيح البخاري ج 1 ص 341 تحت رقم (961 ) باب ( دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ) { تح. د. مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت . ط .الثالثة ، 1407هـ – 1987م }
[24]ـ بلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ج 1 ص 512 ، 513