حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

فاعلية الصوت اللغوي في صنع المعنى الشعري.. دراسة أسلوبية [الحلقة الأولى] بقلم أ.د/ محمد عيد محمد عبد الله

أستاذ أصول اللغة بكلية اللغة العربية بالمنوفية- جامعة الأزهر

أولاً : الصوت اللغوي وتوظيفه:

1-مفهوم الصوت اللغوي :

        نقصد بالصوت اللغوي: الصوت الإنساني الذي يفصح به عن مكنونات النفس، فضلاً عن كونه وسيلة تعبيرية إرشادية، ويخرج من هذا التعريف أصوات الطبيعة والحيوانات والطيور وما أشبهها(1).

        وبنية الصوت – في هذه الدراسة – أولى البنيات التركيبية في القصيدة – أية قصيدة باعتبارها أصغر وحدة صوتية يمكن عن طريقها التفريق بين الكلمات وتمييز أشكالها ولعل أصغر صورة صوتية تصلح في التحليل اللفظي هي “الفونيم” وهو مصطلح صوتي له معنيان :

الأول : معنى تجريدي عام يقصد به النوع لا الأفراد أو الصورة الجزئية وذلك كنوع النون أو الباء أو الراء أو اللام … الخ.

الثاني : معنى خاص يطلق على الصوت الجزئي مع مراعاة صفاته النطقية والسمعية وذلك كصوت النون المختلفة في تراكيب صوتية متنوعة حيث تختلف باختلاف مواقعها ولتفسير ذلك بصورة أوضح نقول: إن صوت النون صوت واحد بوصفها قادرة على تغيير معاني الكلمات أحياناً مثل (ناب – تاب) فنجد أن الفرق بين الكلمتين معنوياً يرجع إلى وجود النون في الكلمة الأولى، والتاء في الثانية، ومن ثم كان كل منهما صوتاً واحداً لا عدة أصوات، أما أفراد النون أو صورها المختلفة فلها وظيفة نطقية محضة أي أنه يمكن تمييزها في النطق أو السمع، ولكن هذه النون ليست بذات وظيفة لغوية وبالتالي لا نستطيع أن تغير معاني الكلمات بإحلال إحداها محل الأخرى(2).

        وذلك مثل : إن شاء الله …، وإن أذن الله …، وإن برح محمد ….، إن رحم الله …

        فالنون في هذه الأمثلة اكتسبت صوراً صوتية مختلفة نظراً لوقوعها في سياقات صوتية مختلفة، فهي في المثال الأول مخفاة وفي الثاني مظهرة وفي الثالث مقلبة ميماً، وفي الرابع مدغمة في الراء، والمعنى لم يختلف في كل هذه المواضع وتسمى الصور الصوتية للنون ألفونات صوتية.

        ويندرج تحت الفونيم أيضاً الصوت الصائت (الحركة) بأنواعه المختلفة إذ اختلاف الحركات غالباً ما يؤدي إلى اختلاف المعنى معجمياً أو صرفياً أو نحوياً.

        إذن الفونيم الذي يتحدد في هذه الدراسة وسيلة لتحليل الكلمة إلى أصغر وحداتها الصوتية، وهو يعمل كسمة وعلامة تحمل إشارات سلبية وإيجابية، إن الفونيم يصلح كإشارة في ضبط المعاني.

2-الصوت بين النظرة الأحادية والفاعلية السياقية :

        ثمة محاولة ترجع كل الأهمية إلى الأحادية في اللغة مغفلة المعاني الباقية التي توجد فيها، ومن هذه المحاولات تلك التي يجدول بها عبد الله العلايلي معاني الأصوات منفصلة ويبني هذا الافتراض على ملاحظاته واستقراءاته لكثير من النصوص وخبرته باستنطاقها وذلك فيما يلي :

  • الهمزة : تدل على الجوفية، وهو وعاء للمعنى وتدل على الصفة غالباً.
  • الباء : تدل على بلوغ المعنى في الشئ بلوغاً تاماً وعلى القوام الصلب.
  • التاء : تدل على الاضطراب في الطبيعة، أو الملابس للطبيعة في غير ما يكون شديداً.
  • الثاء : تدل على التعلق بالشئ تعلقاً تاماً له علاقته الظاهرة سواء في الحس أو في المعنى.
  • الجيم : تدل على العظم مطلقاً.
  • الحاء : تدل على التماسك البالغ، بالأخص في الخفيات وتدل على المائية.
  • الدال : تدل على التصلـب وعلــى التغيير المــــوزع.
  • الذال : تدل على التفـــــرد.
  • الراء : تدل على الملكيــة، وعلـى شيــوع الــوصف.
  • الزاي : تدل على التقلع القوي.
  • السين : تدل على السمعة والبسطــة مـن غير تخصيص.
  • الشين : تدل على النقش من غير نظام.
  • الصاد : تدل على المعالجـة الشديـدة.
  • الضاد : تدل على الغلبة تحت الثقـل.
  • الطاء : تدل على الملكة في الصفة وعلى الانطواء والانكسار.
  • الظاء : تدل على التمكن في الفــور.
  • العين : تدل على الخلو الباطن أو الخلو مطلقاً.
  • الغين : تدل على كمال المعنــى فـي الشئ.
  • الفاء : تدل على لازم المعنى (أي الوضع في المعنى الكنائي).
  • القاف : تدل على المفاجأة التي تحـدث صوتاً.
  • الكاف : تدل على الشئ نتـج عـن الشئ فــي احتكــاك.
  • اللازم : تدل على الانطباع بالشئ في احتكاك.
  • الميم : تدل على الانجماع.
  • النون : تدل على البطون في الشئ أو على تمكن المعنى تمكناً تظهر أعراضه(3).

وإذا كان هذا الشيخ قد استنطق الألفاظ ودلالاتها في بداية تكوينها اقتداء بابن جني وغيره من اللغويين القدامى فإن لرامبو الشاعر الفرنسي محاولة شبيهة بهذا تسمى بالحروف الملونة (4).

وانطلاقاً من تأسيس ابن جني واحتذاء بالعلايلي لهذا المفهوم كرس أودونيس (على أحمد سعيد) كثيراً من محاولاته الهرمية للغة تحت دعوى التجديد وتفجير طاقة اللغة وشحنها بمعان عصرية يقول : “تولد الهمزة سفاحا”(5)، “والحياة التي تدب في الهامد”(6)، “والسلام والحركة”(7)، “والعجز المطلق”(8)، و”الحلول”(9)، “والهمزة” عنده أيضاً : نص يتناسل في نصوص(10).

وتوالت إسقاطاته المعنوية والشعورية على سائر حروف الأبجدية :

ك : ترجتف تحت نواة رفضية بعمق الضوء.

ت : تاريخ مسبوق بالجثث وتجار الصلاة.

أ : عمود مشنقة مصل مبتل بضوء موحل.

ب : سكين تكشف الجلد الآدمي … الخ(11).

ولم يكتف هذا الشاعر بالإسقاط بل حاول أن يمنح (الفونيم) الحياة والحركة كما يتخيلها يقول :

ماذا فعل ميم – ذات مساء؟

أكل ولعب ونام وربما

ماذا فعل سين ذات مساء من تاريخ العالم؟

أكل ولعب وشرب ونام ربما

جنس يلتهم الجنس(12).

وفي محاولة من الشاعر نفسه لصنع منطقه الخاص في اللا منطق اللغوي لهيكل الأصوات في شكل رياضي في مثل :

ا ح د = د ح ا – الأرض

دائماً يصنع طريقاً لا تقود إلى مكان

ا ن ا

منفية بقوة الحضور

كالهواء

وهي هي

كل شئ يتغير وتبقى

ا ن ا = ا ن (13).

وهذه المحاولة والمحاولات التي تبعتْها لا تغير بنية الصوت كشكل وإنما حاولت أن تلعب على بنية المعنى باعتباره حدثاً ثقافياً واجتماعياً.

ولكن هذه النظرية لا تلقى قبولاً لدى من يعتدون بنظرية “السياق” التي تعول على إنتاج دلالة الصوت من داخل السياق نظراً لاعتبارات كثيرة كالتفوق بينه وبين ما يسبقه وكالتعبير عن انفعال دون الآخر … الخ ودراسة الصوت في ضوء نظرية السياق دراسة وظيفية لأن قيمته تكمن في نظام معين بوصفه جزءاً من نظام(14).

وقد أدرك علماء العربية القدامى “أن الحرف إذا كان مستقلاً مثل : باء – تاء – ثاء … الخ، ليس له قيمة دلالية، بينما تظهر قيمته على مستوى الكلمة أو على مستوى التركيب، ويوضح هذا قول السيوطي : إن المعنى المفهوم من الحرف في حال التركيب الكلامي أتم مما يفهم منه عند الإفراد بخلاف الاسم والفعل، فإن كل واحد منها يفهم منه في حال الإفراد عين ما يفهم منه عند التركيب” ويدعم هذا ويؤيد ما للتبادل الصوتي من أثر في صنع المعنى المعجمي(15).

====================

  1. راجع : د. عبد العزيز علام ود. عبد الله ربيع : علم الصوتيات، مكتبة الرشيد، الرياض، 2009، ص19.
  2. راجع : د. حلمي خليل، الكلمة دراسة لغوية معجمية، الهيئة العامة للكتاب، 1980، ص42-43. وراجع علم الصوتيات ص21.
  3. الشيخ عبد الله العلايلي : مقدمة لدرس لغة العرب، القاهرة، 1936م، ص310.
  4. مصطفى السعدني : الإيقاع الشعري دراسات لغوية موسيقية -2002-2003 .ص : 139-141.
  5. من ديوانه “مفرد بصيغة الجمع”، دار العودة، بيروت، ص 89    .
  6. المرجع السابق.
  7. المراجع السابق.
  8. المرجع السابق.
  9. المرجع السابق.
  10. أدونيس : كتاب القصائد الخمس يليها المطابقات والأوائل، دار العودة، بيروت، ص121.
  11. أدونيس : الآثار الكاملة، دار العودة، بيروت، 2/582.
  12. مفرد بصيغة الجمع، 126.
  13. السابق، ص16.
  14. راجع : دكتور تمام حسان : اللغة العربية معناها ومبناها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979، ص71. ود/ محمد كمال بشر : دراسات في علم اللغة القسم الأول الأصوات، دار المعارف بمصر، ص149.
  15. راجع د/ طلبه عبد الستار : علم الأصوات 290، دار المعرفة للتنمية البشرية، الرياض، 1429. وانظر السيوطي : الأشباه والنظائر : 3/2، 3 تحقيق طه عبد الرءوف، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu