Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

التجديد في فكر الإمام الطيب [الحلقة الأولى] بقلم أ.د/ مصطفى فاروق عبد العليم

      “ليس من المبالغة أن نقول: إن الأزهر كان -وسيظل- “قلعة الاجتهاد والتجديد” في الإسلام على مدى تاريخ المسلمين، بعد عصر الأئمة الأربعة وأئمة المذاهب الفقهية الأخرى المعتبرة، وكان تراث المسلمين قد أشرف على الهلاك بعد ما ضاع على أيدي الغزاة بالأندلس في الغرب، وبعدما أحرقه التتار في الشرق، ولولا الأزهر لما كان هنالك ما يسمى الآن بالتراث العربي الإسلامي…”

                                                                             الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب 4مايو 2021م

     أوشكت أن استرسل في الحديث عن التجديد في فكر فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب، ولكن سريعًا ما أحجمت عن ذلك؛ إذ أدركت أنّه لا يمكنني أن أوفي فضيلته حقه.

      من ثمَّ وقفت على مأثورة من مأثورات فضيلته التي تبرز التجديد في فكره، وهي الكلمة الافتتاحية في (مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية) في الفترة من 27-28 يناير 2020م. وقد ضم المؤتمر نخبة من كبار القيادات والشخصيات السياسية والدينية البارزة على مستوى العالم، وسنقتبس من نور هذه الكلمة عَبرَ النظرية الحجاجيّة في السطور التالية.

       تُعد هذه الكلمة الافتتاحية خطابًا حِجَاجيًا بامتياز، يسعى عبرها فضيلة شيخ الأزهر بصفته إمامًا لجمهور العالم الإسلاميّ إلى إقناع المخاطَبين في مشارق الأرض ومغاربها إلى أنَّ العلاقةَ بين (التجديد) وبين بقاء الإسلام دينًا حيًّا يقدّم الخير للبشرية جمعاء، وهذا ما أبرزه فضيلة الإمام في كلمته.

    استعان فضيلة الإمام الأكبر -في كلمته- بالوسائل اللغويّة التي تُعد من أهم الأدوات في عملية الإقناع، فهذه الأدوات تُعين المرسِل على تقديم حججه في الهيكل الذي يناسب الخطاب، وقد توسّل بها فضيلة الإمام الأكبر أثناء طرح كلمته الافتتاحية؛ بغية إكسابها طاقة حِجَاجيّة، ونهتم في هذه الوسيلة بالاختيارات اللفظيّة والتركيبيّة التي يعمد إليها الإمام لغاية حِجَاجية، وتُعد هذه الأدوات بمنزلة القوالب التنظيميّة للعلاقات بين الحِجَج والنتائج، وتساعد الباث على تقديم حججه حسب الموقف.

(إنَّ موضوع تجديد الفكر الإسلامي، أو الخطاب الدِّيني، لهو موضوعٌ واسع الأرجاء)

     النص السابق من الإخباريات التي استعان بها فضيلة الإمام في كلمته، وتعني تبليغ الخبر، وهي تمثيل للواقع، ومثّلت الإخباريات حضورًا واسعًا في كلمة الإمام، إذ إنّ الإخباريّات هي التي تؤدي إلى إقامة الحجة، ومن ثمَّ تتحقق الإفادة، فقد ذكر فضيلته: (وإنَّ موضوع تجديد الفكر الإسلامي، أو الخطاب الدِّيني، لهو موضوعٌ واسع الأرجاء مترامي الأطراف، وقد بات في الآونة الأخيرة مفهومًا غامضًا وملتبسًا، لكثرة تناوله في الصُّحُف وبرامج الفضاء…)    

   كلها أخبار تقريرية تُبرز أهمية التجديد، وبيّن فضيلته دقة هذا المصطلح، ثم أبرز فضيلة الإمام عن طريق الإخبار -أيضًا- العلاقة بين التجديد وبقاء الإسلام، إذ يقول: “وأوَّل ما تنبغي الإشارة إليه هو بيان أنَّ العلاقةَ بين «التجديد» وبين بقاء الإسلام دينًا حيًّا يقدِّم الخير للبشرية جمعاء -هي علاقة التطابق طردًا وعكسًا، وهما أشبه بعلاقــة الوجهين في العُملةِ الواحدة، لا ينفصم أحدهما عن الآخر إلَّا ريثما تفسد العُملة بوجهيها وتصبح شيئًا أقرب إلى سقط المتاع.” بجمل إخباريّة متتالية أقنع فضيلته المتلقين بالعلاقةَ بين «التجديد» وبين بقاء الإسلام دينًا حيًّا.

(إنّ قانـون التجـدُّد أو التجديد، هو قانون قرآني خالص)

      أبزر فضيلته في كلمته الافتتاحية أنّ التجديد قانون قرآني إذ يقول: “إنّ قانـون التجـدُّد أو التجديد، هو قانون قرآني خالص، توقَّف عنده طويلًا كبارُ أئمةِ التراث الإسلامي” فالتجديد كما ذكر فضيلته قديم في التراث الإسلاميّ، ويظل فضيلته يعتمد على الإخبار، إلى أن ينتهي عن طريق الإخبار –أيضًا- بوضع رؤية مستقبلية لهذا التجديد؛ فيقول: “القضايا التي هي محل التجديد قضايا كثـيرة لا يستوعبها مؤتمر واحد، لذلك قرَّر الأزهر الشريف إنشاء مركز دائم باسم: «مركز الأزهر للتراث والتجديد» يضم علماء مسلمين من داخل مصر وخارجها“… كذلك وجدنا الإخبار عن طريق النفي في قوله: (ليس مؤتمرًا نمطيًّا ولا تكرارًا لمؤتمرات سابقة…) فينفي فضيلته النمطية، والتكرار لهذا المؤتمر، ومن ثمَّ يُبرز  فضيلته أهمية هذا المؤتمر، وما تميّز به عن غيره من المؤتمرات إذ وضع آلية لتجديد الفكر الإسلامي لا تقوم على الفرديّة بل عبر إنشاء مركز يضم علماء مسلمين، كما أشار إليه فضيلته في الإخبار السابق.

       أما إذ انتقلنا إلى التوجيهات في كلمة فضيلته، وهي التي تحمل المخاطب على فعل معين، فنجد: “ومما يجـب أن يتنـبه إليـه المسلمون ويلفتـوا أنظارهم إليـه…” فالجمل لا تحمل أمرًا مباشرًا، وإنّما هو حث فيه رغبة صادقة ولفت للانتباه.

    وثالث أفعال الكلام في كلمة الإمام التّعبيريات (التصريحات) وتعني الفعل اللغويّ الذي يعبّر من خلاله المتكلم عن سلوكه ومشاعره تجاه الغرض، فهي التعبير عن مواقف نفسيّة تعبيرًا مخلصًا، وتندرج تحتها أفعال الشكر، “شُــــــــكْـرًا لِحُسْـــنِ اسْتِمَاعِكُم” تكمن براعة هذا التعبير في مطابقته للواقع الخارجي، فالقول هو الفعل، والغرض المنشود هو جذب السامعين وحثهم على المشاركة في تحقيق الهدف من هذا المؤتمر، وهذه العبارة الموجزة الفصيحة في آخر الكلمة، لها طاقة إقناعية، فهي بمثابة تثبيت لما ذكره سلفًا؛ من ثمَّ برزت قدرة فضيلته، وبراعته في إبداع فعل حِجَاجي من خلال وعيه الكامل بما أراد في كلمته.

(واليوم لا يخامرنا أدنى شك في أن التيار الإصلاحي الوسطي هو الجدير وحده بمهمة التجديد الذي تتطلَّع إليه الأمة.. وأعني به التجديد الذي لا يشوه الدِّين ولا يلغيه)

       من الوسائل اللغويّة التي اعتمدت عليها كلمة الإمام الافتتاحيّة (التكرار)؛ وربطت هذا التكرار بالتجديد، وأنّ التيار الوسطي الإصلاحي هو الجدير للقيام به؛ والتكرار يؤدي دورًا حِجَاجيًا مهمًا يساعد على التبليغ، والإفهام، ويُعين المتكلم على ترسيخ الرأي، والصورة في الذهن. لقد استعان فضيلة الإمام بالتكرار سواء أكان لفظيًا، أم معنويًا، ومن التكرار اللفظي، تكرار كلمة (التجديد) خمس عشرة مرة بالمصدر -تفعيل وتفعل- وباسم الفاعل، وتارة تكون مثبتة وأخرى منفية، وتارة مضافة وتارة أخرى مضافة إليه، وتارة مرفوعة، ومنصوبة، ومجرورة، وكذلك وجدنا ألفاظًا مرادفة للتجديد: كالاجتهاد والتغيير والتبديل والتطوير … ومع هذا التكرار، فقد ربط النسيج اللغوي بين هذا التجديد، ومن يملك أدواته من رجال الفكر الإسلاميّ الإصلاحي الوسطيّ، فالتجديد ليس عبثًا ولا لهوًا، بل هو حاجة وضرورة مع المحافظة على الثوابت الدينية كما أبرزتها كلمة الإمام الأكبر، ويهدف فضيلته من هذا التكرار إلى تأكيد المعنى، وترسيخه في ذهن المتلقي.

  (ثم يأتي النوع الثاني من الأحكام القابلة للتبدُّل والتغيير، وهي الأحكام المختصة بمجالات الحياة الإنسانيَّة الأخرى)

      نجد الوسائل المنطقية، التي استعان بها فضيلة الإمام في كلمته؛ بغية إكسابها طاقة حجاجيّة، والتي اعتمدت قوانين المنطق، ومنها الحجج شبه المنطقية التي تستند إلى العلاقات الرياضيّة كإدماج الجزء في الكل، وتقسيم الكل إلى أجزائه المكونة له، فيقول فضيلته: “ومن نافلة القول التأكيد أو التذكيرُ بأن أحكام الدِّين الإسلامي تنقسم إلى ثوابت لا تتغيَّر ولا تتجدَّد، وهي الأحكام القطعية الثبوت والدِّلالة…” ثم فصّل فضيلته القول فيها ثم ذكر: “ثم يأتي النوع الثاني من الأحكام القابلة للتبدُّل والتغيير، وهي الأحكام المختصة بمجالات الحياة الإنسانيَّة الأخرى...” ثم فصّل القول فيها، فأجمل فضيلته ثم فصّل، وهذا من شأنه تثبيت الفكرة ووضوحها في ذهن السامع، ودفع توهم غير المراد.

 “أحكام الفقه الدستوري التي لم يقرِّرْ فيها القرآن أكثر من ثلاثة مبادئ: الشورى والعدل والمساواة…”

      نجد في كلمة فضيلة الإمام من الآليات المنطقية، الحجج التي تستدعي القيم؛ إذ تجبر السامع على اختيار ما، وحمل الجميع على الإذعان اعتمادًا على حجج ذات سلطة، فيدخل الحجاج عندها، بسهولة فائقة إلى باب التوجيه، ويتحول الإقناع إلى هجوم يستهدف مناطق الخصم المعرفيّة. ولقد أبرز فضيلة الإمام -في كلمته- مجموعة من القيم الكونيّة (الشورى، والعدل، والمساواة) إذ يقول فضيلته “أحكام الفقه الدستوري التي لم يقرِّرْ فيها القرآن أكثر من ثلاثة مبادئ: الشورى والعدل والمساواة…” احتجّ فضيلة الإمام بوضع أطر عامة لبعض الأمور، ومنها مبادئ الفقه الدستوري كما ذكر فضيلته.

      إنّ المبادئ التي ذكرها الإمام استنادًا للقرآن الكريم، هي محل إجماع من المجتمع، والأمة.

        من ثَمَّ؛ برزت شخصية فضيلة الأمام الأكبر عبر وسائل الإقناع التي استعان بها في كلمته؛ أنه شخصية قويّة مجددة مؤثرة عقلانيّة، تحمل هموم الأمة وآمالها على عاتقها.

     وسنواصل الحديث عن التجديد في فكر الإمام الطيب في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.