اللغة العربية من اللغات التي توفَّر لها أسباب الريادة والنهوض؛ حتى سادت الدنيا، وصارت لغة الحضارة والعلوم والفنون، في وقتٍ كان العالم يموج في ظلمات الجهل والظلام في أوربا وغيرها من الأقطار الأخرى في العصور الوسطى إبَّان الفتح الإسلامي حتى القرن الخامس الهجري.
“فلقد حظيت اللغة العربية بما لم تحظَ به لغة أخرى من عوامل القوة والبقاء، فهي اللغة التي ولدت في مهد الأبجدية الأقدم في التاريخ الإنساني، وورثت بعض عناصر أمهاتها وأخواتها من لغات الشرق القديم”([1]).
فقد توفر لها من أسباب ومظاهر الريادة ما لا يمكن حصره، ومع ذلك فقد واجهت اللغة العربية ومازالت تواجه تحديات كبيرة سواء كان ذلك من أعدائها، أو من قبل بعض المنتسبين إليها، ومن ذلك الدعوة إلى اتخاذ العامية لغة الكتابة والعلم والأدب بدل الفصحى، وهي دعوة هدَّامة خطرة كل الخطر؛ حيث أراد منها دعاتها من أعداء الإسلام القضاء على الإسلام نفسه بالقضاء على القرآن والحديث وكل آثار العرب البيانية([2]).
يقول الدكتور أنور الجندي: “لم تقف محاولات تحدي نمو اللغة العربية عند إيقافها عن التوسع والحيلولة دون حركتها مع انتشار الإسلام خاصة في قلب أفريقيا وجنوب شرق آسيا وفي المناطق الجديدة التي وصل الإسلام إليها، وإنما جرت المحاولات إلى ضرب اللغة العربية في مواطنها وهدمها في معاقلها حيثما وصل نفوذ الاستعمار وسلطانه، حيث فرضت لغة المحتل واعتبرت اللغة الأولى في المدارس والمعاهد التعليمية وأزيحت اللغة العربية أساسًا، ثم جاءت الخطوة التالية مباشرة وهي الدعوة إلى العامية وتشجيعها والاهتمام بها وبثها في مختلف جوانب الحياة من حديث وكتابة وإذاعة ومسرحيات وقصص. كما تقدم التبعيون بالدعوة إلى انتقاص اللغة الفصحى ومحاولة وصفها بالتعقيد ووصف العامية باليسر”([3]).
فالدعوة إلى العامية والكتابة باللاتينية بدل العربية، تُعَدُّ من آفات اللغة العربية الفصحى في العصر الحديث، ومِعْوَل هدمٍ لتراثنا وديننا الخالد، بدليل أنَّ مَنْ حمل لواء هذه الدعوات أعداء العربية والإسلام من المستشرقين وأذناب الاستعمار الإنجليزي والفرنسي وغيرهم من دعاة العربية، في وقتٍ فُرِضَت فيه لغة المحتل واعتبرت اللغة الأولى في المدارس والمعاهد التعليمية وأزيحت اللغة العربية أساسًا.
هذا ومازالت اللّغةَ العربيّةَ تُواجِهُ تَحَدِّياتٍ جِسَامٍ تُؤدِّي إلى وضعِ العديدِ منَ العوائقِ أمامَ التقدّمِ الذي تَشْهدُه؛ مما يجعلها تَئِنُّ وتستغيث بأبنائها الغيورين على لغتهم، ومن أهمّ هذه التّحدِّياتِ:
1_ عدمُ اهتمامِ مُعظمُ مجالاتِ البحثِ العلميّ باستخدامِ اللّغةِ العربيّةِ كلغةٍ خاصّةٍ في الأبحاثِ الأكاديميّةِ والعلميّةِ، ممّا أدّى إلى عرقلةِ تطوّرها بشكلٍ جيّد.
2_ تأثيرُ اللّغاتِ الغربيّةِ على اللّسانِ العربيّ، وخصوصًا مع انتشارِ اللّهجاتِ بين العربِ، والتي أدّت إلى استبدالِ العديدِ من الكلمات العربيّةِ بأُخرى ذاتَ أصولٍ غيرَ عربيّةٍ.
3_ قلّةُ اهتمامِ التّكنولوجيا الحديثة باللّغةِ العربيّةِ، والتي اعتمدت على بناءِ تطبيقاتِها وبرامجِها على اللّغةِ الإنجليزيّةِ واللّغاتِ العالميّةِ الأُخرى، ممّا أدى إلى قلّةِ التّفكيرِ في ترجمةِ هذه التّكنولوجيا إلى اللّغةِ العربيّةِ.
4_ الاعتمادُ في بناءِ الفضاءِ الرقميِّ الإلكترونيّ في الإنترنت على الأرقامِ واللّغةِ اللاتينيّةِ التي أصبحتْ المُصمّمَ الرئيسَ للعديدِ من الصّفحاتِ الإلكترونيّةِ، والتي لم تُستخدَمْ باللّغةِ العربيّةِ، معَ أنّهُ من المُمكنِ استخدام الحروف العربيّة في الكتابة الرقميّة.
ولذلك فالحل الأمثل ـ من وجهة نظري المتواضعة ـ هو التمسك بهذه اللغة الفصحى لغةً وكتابة مع زيادة الاعتناء بها في المجتمع لدى النشء منذ الصغر وتربيتهم على حب هذه اللغة وإتقانها والدفاع عنها. كذلك تشجيع الدراسات القرآنية تجويدًا وقراءات فهي مصدر حماية لهذه اللغة بإتقان أحكام اللغة من خلال إتقان أحكام التلاوة. ومقاومة حملات التهوين والتقليل من شأن اللغة العربية ومتعلِّمها ومعلِّمها في مقابل اللغات الأجنبية الأخرى، وإقامة المسابقات ورصد الجوائز لمن يتقن أحكامها ويبرع فيها وتخصيص برامج في الإعلام المرئي والمسموع لتعليم اللغة العربية الصحيحة نطقًا وكتابةً؛ لأن الجهل باللغة العربية وأحكامها انتشر في هذا العصر الحديث عن سابقة وانصرف الناس إلى اللغات الأخرى؛ حبًا للشهرة والظهور من خلال البراعة فيها والحصول على المناصب والوظائف العامة والخاصة. فالدور مشترك والمسؤولية عامة بين مؤسسات الدولة إعلامًا، وسياسةً، وثقافةً، وتعليمًا، وتوظيفًا (قوى عاملة). على الجميع أن ينهض بمسؤوليته تجاه الحفاظ على مظهر قوميتنا ومصدر عزِّنا وفخرنا، ولسان ديننا، اللغة العربية سلَّمها الله من كل داء، وحفظها من كل مكروه، باقيةً خالدةً بخلود الإسلام وبقاء الدنيا.
وفي الختامِ لا يَسَعُنَا إلا أنْ ندعو الأجيالَ الناشئةِ إلى الحفاظِ على هَوِيتِهِم من خلالِ الحفاظِ على لُغَتِهِم العربيةِ، ومقاومةِ الدعواتِ الهدَّامَةِ، والدفاعِ عن لغةِ القرآنِ الكريمِ والسنَّةِ المطهَّرة، وذلك بالرجوعِ إلى الفصحى، وعدمِ استبدَالِهَا باللغاتِ الأخرى أو بالعاميةِ في مجالِ التعليمِ أو التواصلِ الاجتماعيِّ أو الخطابةِ واللقاءاتِ العلميةِ والأدبيةِ، فهي مسؤوليةُ الجميعِ، وهي أمانةٌ في أعناقِ أبنائِها، يجبُ الحفاظُ عليها والزَّودِ عن حِيَاضِهَا، ضدَّ أعدائِها أعداءَ الدينِ من المستشرقينَ والمستعربينَ ودعاةَ العاميَّةِ والجُهَّالِ الغوغائيين…. وفي هذه الحال أجدني أَتَمثَّل قول الشاعر([4]) في قصيدته “اللغة العربية تستغيث”، يقول بلسان حال اللغة العربية اليوم:
لله أَشْــــــكُـو من عــُقــِــــوقِ بَنـــــــَـاتــــــــِي | |
وَأَخــُــــصُّ أَبْنَائِي بجُــــــــــــلِّ شِكَـــــــاتِي | |
لَوْ أَنَّ حَافِظَ عَاشَ بعدَ مَــــــــمَــــاتِ | |
لتَجــَــــــــرَّعَ الغُصَّاتِ وَالحَسَـــــــــــــــــــرَاتِ | |
وَتَألمَّ القَـــــــلبُ الَّذي كانَ نَابِضــــًــــا | |
بصياغةِ الأصدافِ من كلمـــــاتــي | |
يا قومَ ضـــــَـــــادِي أينَ أنتُــــــمُ إنَنِي | |
قد هــــــَـــــــــــالَنِي إهمـــَـــــالُكُـــــــم أَدَوَاتِي | |
قد هَـــــــالَنِي أنْ تَسْتَعِـــينـــــُوا مَـــــــرَّة | |
بِهَــــــزِيلِ أقـــــوالٍ من اللَّهــــــــــجـــَــــاتِ | |
وأنا الغــَنِيــــــــــَّةُ وَالثـــــَّرِيـــــــــــَّــــةُ إنَّــــنِي | |
أَسْمُـــــو بِضَادِي فَــــوقَ كلِّ لُغَاتِ | |
يَكْــــــفِـــــــــي بأنَّ الله جــــــلَ جــَـــــلالُــــــهُ | |
قالَ الكتابَ بأقـــــــــــدسِ الكلــــــــــماتِ | |
فاختــــَـارَنِي ربِّي لخــــيرِ رِسـَـــــالــــــــــــةٍ | |
ليكــــونَ في القرآنِ ســــــــــــرُّ حَيَاتِي | |
من أَحــْــــــرُفِي صَاغَ الإلهُ كتَـــــــــــابَهُ | |
هـــــذا الذي هوَ مَجْــــــــمـَـــعُ الآياتِ | |
فضـلٌ كَفــــَانــــِي من إلهــــِي بارئِـــــي | |
يا قـــــــومُ هذا أشـــــــــــــرفُ الدرجاتِ | |
من أحرفي صِيغَتْ قصائدُ عدةٍ | |
في مدحِ أحمدَ صاحبَ النفحاتِ | |
من أحـــــرفي كتبتْ رســـــائلُ إنهـــــا | |
في الفقهِ في التفسيرِ في الغزواتِ | |
من أحرفي قال الأئمــــــةُ قــــولهَـــــُمْ | |
ليــــُـوضِّـــحـــُـــوا مــا غُــــــــــــــــــمَّ من آياتِ | |
من أحرفي خرجتْ مواهبَ عدةٍ | |
لتصـــــــوغَ ما في النفسِ من ملكاتِ | |
من أحرفي صِيغتْ قصـــــائدُ قالهَا | |
شـــــعــــراءُ صَـــــــاغـــُــوا أروعَ الأبيـــــاتِ | |
ظـــــلـــتْ قصـــــــائِدُهُم تُغَـــــنَّى إنَّهــــا | |
مـــــن أبــــدعِ الألحـــــانِ والنـَّغـــــــــمـــــاتِ | |
يا قومِ إني أستغيثُ فهــــــــلْ بكُمْ | |
رجـــــلٌ رشـــــــــــــــيـــدٌ نـافـــــــذُ الهـــــمـــــــاتِ | |
هل منكـمُ رجــــلٌ رشـــــيدٌ عــــاقـــلٌ | |
ليـــعـــــيدَ لي مـجــدي وقبلَ فــــــــــــــواتِ | |
هُبُّوا بَنِيَّ ومن سُباتٍ دَافـــِـعـــُــــــــوا | |
عنِّي وصـُــونـــُوا قـــَــامـــَـــتِي وقــَــنـــَـاتِي | |
فأنَا لكُم عِــــرضٌ وعِــــزٌّ دائــــِـــــــــمٌ | |
والعـــِـــرضُ واجــــــبٌ حفْظــــُهُ بثبَـــَاتِ | |
فإذَا تخَـــــــَاذَلْتــــُم فـــــَـــإِنِّي مــــــنكُـــــمُ | |
لَبَريِــــئـَـةٌ إنــــِّي ليِـــــــَــــــــومِ مــَـــــمَـــــــــــــاتــِـي | |
وكــَــــفـــى بأنَّ الله في عــــَــلْيـــَائـــِــهِ | |
هــُــوَ حـــَـافـــــــــــــــِظُ القـــــُـــــــرآنِ والآيــــاتِ | |
سيَظَـــــلُّ حــَــــرْفي قَائمًـــا متـــَــمَكِّنًا | |
حَــــتَّى تَقـــــومَ قــــــــــــــيامــــــــةُ الأمــْــــــواتِ |
(هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل)
=====================
([1]) خصائص العربية وطرائق تدريسها / للدكتور معروف نائف ص 83، ومكانة اللغة العربية قديمًا وحديثًا/ مقال للدكتور معراج أحمد معراج الندوي منشور بموقع ” نداء الهند” 2018م.
([2]) ينظر: قضايا ومشكلات لغوية/ لأحمد عبد الغفور عطار ص68.