لم تكن حدود النحو صارمة بحيث تكون المرجع في الحكم على الأساليب ، وقد علمت المناقشات الحادة بين النحاة والقراء ، ولم تكن بطون اللغة مانعة من عدم تسجيل ألفاظ أخرى لم تصل إلى الرواة، بحيث تكون المرجع في الاستعمال .
ولم تكن هذه المعاجم خالصة للغة الاستعمال ، أو اللغة الرسمية ، ولكنها جمعت الشارد ، والغريب ، والمهجور .
لذلك عمد بعض اللغويين قديمًا وحديثًا إلى قياس الألفاظ، والأساليب المستعملة بين الناس ، إنْ في خطابة ، أو كتابة على القواعد النحوية والصرفية ، فما وافق القاعدة فهو الصواب اللغوي ، وما خالفها فهو اللحن ، أو الخطأ .
ربما غفلت هذه البحوث عن أثر المجتمع في تطور اللغة ، ومرونتها في مواكبة الوافد ، وحضورها الدائم في التعامل الرسمي خطابة، وكتابة، أو في التعامل العامي .
والمتتبع لهذه الكتب قديما يجد أنها كانت صغيرة الحجم ، ثم ازداد حجمها وصولا إلى العصر الحديث الذي تتوالى فيه البحوث اللغوية الواقفة على الاستعمال اللغوي بالتصويب والتخطئة.
وكانت وسيلة لتحبير الأوراق وملء الصفحات وإعداد معاجم لترتيب الكلمات والأخطاء الشائعة ، غافلة عن غاية اللغة وهي التواصل .
وبينما نجد الهيئات العلمية الكبرى كالمجامع اللغوية تدرك فلسفة اللغة وطبيعتها ، فتبحث عن مسوغات لاستعمال الألفاظ والأساليب ، نجد في جهة أخرى بحوثا تقف على تخطئة الكلام ، وتتبع عثرات اللسان .
وحُقَّ للأستاذ أحمد حسن الزيات أن ينكر على اللغويين عدم مسايرة التطور اللغوي ، والوقوف لدى التراث في الحكم بالصواب أو الخطأ ، يقول:
” ما الفرق بين سؤالنا: هل للمُحْدَثِين حقٌّ في الوضع اللغوي؟ وسؤالنا: من الذي يملك على التراث حق الانتفاع به ، وحق التصرف فيه؟
أهو الميتُ الذي ورَّث ، ثم غاص في أعماق العدم ؟
أم هو الحي الذي ورِث، ولا يزال يضطرب في آفاق الوجود ؟
أو سؤالنا: من الذي يملك أن يزيد في اللغة ، أو يهذِّب منها، وهي وسيلة الفهم ، والإفهام ؟
أهو اللسانُ الذي سكتَ، و بلِيَ، وانقطعت أسبابه بالحياة ؟
أم هو اللسان الذي لا يزال يتحرك، ويلغو ليُسمي كلَّ وليدٍ تضعُه القريحةُ، ويُعبرَ عن كل جديدٍ تخلقه الحضارة؟ ” ( وحي الرسالة 3/ 175، ومجلة المجمع 8/ 110) .
أسئلة شائكة يلقيها الأديب الكبير على سدنة اللغة في مؤتمر الدورة السادسة عشرة لمجمع اللغة العربية بالقاهرة يوم 26/ 12/ 1949م ، ” وذلك أن المجمع – وهو وحده السلطة التشريعية العليا للغة العربية – يستطيع في حدود قواعدها الموضوعة ، وقوالبها الموروثة أن يزيد عليها ، وينقص منها ، ويغير فيها ، ولكن يُعطِّلُ -مختارًا- هذه القدرة التي لم يؤتَها غيره باستشارته القدماء في كلِّ إصلاحٍ لغوي يقترحه ، وفي كل قرار نحْوي يُقِرُّه.
واستشارةُ الماضينَ في شؤون الباقين – مع تبدُّلِ الأحوال ، وتغيُّر الأوضاع، وتقدم العلوم ، وتفاوت العقول ، واختلاف المقاييس – تكون في أكثر الأحيان مُعطِّلة ، أو مُضلِّلة .
فلو أن سيادة رئيس المجلس استشارهم – مثلا – فيما يُنقل من كتب أرسطو لقال له ابنُ فارس – وهو من رجال القرن الرابع – :
” وَقَدْ زعم ناس أنّ علوماً كَانَتْ فِي القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها دَرسَت، وجُدّدت منذ زمان قريب، وتُرجمَت، وأُصلِحَت منقولةً من لغة إِلَى لغة. وليس مَا قالوا ببعيد، وإن كَانَتْ تِلْكَ العلوم – بحمد الله، وحُسْنِ توفيقِه- مرفوضةً عندنا” . ( وحي الرسالة/ والمجلة م س ) .
كانت المحاضرة التي ألقاها الأديب كفيلة بإثارة المناقشة المستفيضة حولها ، وقرر المجمع إحالتها إلى لجنة الأصول لإبداء الرأي فيها ، وقدمت اللجنة تقريرها ، وجاء فيه : ” ترى اللجنة :
أولًا : قبول وضع المُحْدَثِين ، وتعريبهم بشرط أن يكون اللفظ شائعًا على ألسنة الناس ، ومستساغا ، ولم يكن له مرادف عربي سابق صالح للاستعمال، على أن تُدرس كل كلمة على حدتها عند إقرارها ، وينبه إلى أصلها عربي أو غير عربي ، وإن لم يكن لها أصل معروف أُشير إلى ذلك.
ثانيا : قبول السماع بشرط أن يكون هذا السماع من كاتب أو شاعر أسلوبه العربي موضع الاطمئنان ، والثقة بعربيته ” ( محاضر جلسات الدورة السادسة عشرة ص 281 ) .
وانتهى المجمع إلى قراراته :
- قبول السماع من المحدثين.
- تتبع الألفاظ والأساليب الشائعة .
- دراسة الكلمات الشائعة . ( مجموعة القرارات العلمية في خمسين عاما ص 9 – 11 ) .
( يتبع)