لقد كان التأمل وطول النظر والتدقيق أحد أهم الوسائل التي كان يعتمد عليها الشيخ في تذوقه الفني، وهذا ما جعله يتلمس مالا يتلمسه الآخرون، ويبصر بذائقته مالا يبصرون. ظل وظلوا زمنًا يقرأون بيت المتنبى ولا يبصرون به ما يفسد معناه،” وإنك لتنظر في البيت دهرًا طويلاً وتفسره، ولا ترى أن فيه شيئًا لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفي لم تكن قد علمته، مثال ذلك بيت المتنبى:
عَجَباً لهُ حَفِظَ العِنانَ بأُنْمُلٍ ما حِفْظُها الأشياءَ مِنْ عاداتِهَا
مضى الدهر الطويل ونحن نقرؤه فلا ننكر منه شيئًا، ولا يقع لنا أن فيه خطأ، ثم بان بأِخْرَةٍ أنه قد أخطأ. وذلك أنه كان ينبغي أن يقول: (ما حفظ الأشياء من عاداتها) فيضيف المصدر إلى المفعول، فلا يذكر الفاعل، ذلك لأن المعنى على أنه ينفي الحفظ عن أنامله جملة، وأنه يزعم أنه لا يكون منها أصلاً، وإضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله : (ما حفظها الأشياء)، يقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظًا”.([1])
الخطأ وقع فيه المتنبي، والشيخ – بعد تأمل- أدركه، المتنبي أضاف المصدر إلى فاعله، فأوجب فِعْل فِعْلٍ، هو نفى أن يكون منها، وكأنه يثبت الشيء وضده في آنٍ، وهذا في منطق البشر محال. فالشيخ في النموذج السابق يصوب خطأ، هو أدركه، فتذوق وحلل وبرهن ودلل، بينما في نموذج آخر من نفس الفصل الذي عنون له الأستاذ شاكر في تحقيقه للكتاب:”إدراك البلاغة بالذوق وإحساس النفس”، يفعل صنيعه مع قصة ابن الرمة في أبياته (لم يكد رسيس الهوى من حب فيه يبرح)، إذ يقف على التذوق الصحيح، يثبته، ويؤكده، ثم يؤيده، ويفسر ويمثل عليه.
ومما يدخل في ذلك، ما حكي عن الصاحب (وهو الصاحب بن عباد) من أنه قال:” كان الأستاذ أبو الفضل يختار من شعر ابن الرومي ويُنَقّط عليه (أي يضع نقطة علامة على اختياره) قال: فدفع إلىّ القصيدة التي أولها: (أتحت ضلوعي جمرة تتوقد) وقال تأملها فتأملتها، فكان قد ترك خير بيت فيها وهو:
بجهلٍ كجهل السيف والسيف منتضى وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
فقلت : لم ترك الأستاذ هذا البيت؟ فقال: لعل القلم تجاوزه. قال: ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرًا من تركه. قال: إنما تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات. قال الصاحب: لو لم يُعِده أربع مرات فقال: بجهل كجهل السيف وهو منتضىً، حلم كحلم السيف وهو مغمد، لفسد البيت”. ([2])
والشيخ بعد أن ينتصر لتذوق الصاحب بن عباد على الأستاذ “ابن العميد”، نراه يزيد بأن يثبت من خلال ذلك التذوق الفني معيارًا بلاغياً، “إذا حدّثت عن اسم مضاف، ثم أردت أن تذكر المضاف إليه، فإن البلاغة تقتضي أن تذكره باسمه الظاهر ولا تضمره”.([3])
ومن غزارة علم عبد القاهر وسعة اطلاعه، يستشهد على ذلك المعيار الفني بنماذج ثلاثة؛([4]) إذا تذوقتها وجدتها تثبت المعيار الذي اثبته الشيخ، ليدلل من خلال منهج تذوقي فني قوامه الإكثار من الشواهد، على صحة ما ذهب إليه.
لقد كان لعمق التذوق الفني عند الشيخ عبد القاهر الجرجاني أثر في وقوفه على أبعدَ مما كان يقف عنده الآخرون. فالوقوف عند الاستعارة في قوله:}وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا{ [سورة مريم/من الآية 4]، وجعلها مصدر البلاغة في الآية، هو وقوف عند المعنى الأول (المفهوم مباشرة من سياق الآية)، وهذا المعنى يرفض عبد القاهر الوقوف عنده والاكتفاء به، فليس الأمر في استعارة الاشتعال للرأس، وإنما دلالة المعنى، والتي لا تتوقف عند لفظ الاستعارة فقط، وإنما- للوصول إلى تلك الدلالة- نحتاج إلى تذوق ما وظف في الآية للوصول إلى معنى المعنى، أو المعنى الثاني من حيث: صياغة الاستعارة، وطريقة الإسناد فيها، وتعريف الرأس بـــ (أل) العهدية، وليس بالإضافة إلى ياء (التخصيص)، وتقديم الرأس وتأخير الشيب وتنكيره، كلها عوامل تتآلف لتعطيك معنى غير معنى الاستعارة وحدها، معنى بلوغ الغاية في الكبر وشدة العجز والضعف التام، والعموم، عموم الشيب كل الرأس، ثم عموم في سياق أكبر يتآلف مع (وهن العظم مني)، حتى صار الضعف والوهن والهِرم والعجز سِمَتُه (العموم) في كل الجسم، هذا المعنى الثاني – الذي هو ليس مجرد الكبر المفهوم من الاستعارة، وإنما منتهى الكبر، والغاية في العجز التام والضعف وهو المعنى المقصود من نظم الاستعارة – هو ما يبحث عنه عبد القاهر، وهذا المعنى الثاني هو الذي أعطى للشاهد إعجازه القرآني في سياقه العام؛ فمع هذا العجز التام والشيب الطاغي، والهِرم الفاني، باعتراف زكريا نفسه، ثم يطمع من ربه في وريث يرثه، فهو بيان لتلك الرحمة في أول السورة، في قوله تعالى: }كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا{[سورة مريم/الآية 1، 2]والتي بدأ بها السياق، والتي أطمعت زكريا في أن ينادي ربه ويناجيه نجاءً خفيا، تحذوه رحمة ربه، ويدفعه اليقين به واللجوء إليه والاعتماد عليه، وهو يقين الأنبياء في طلب ما يفسر في هذه الحالة- التي صورها نظم الاستعارة، وليس مجرد الاستعارة- بأنها معجزة.
ولتكتمل أركان المعجرة- من طلب واستجابة- يبشر الخالق نبيه زكريا بالغلام، ثم تأكيدا لمعنى المعجزة يسميه الله (يحيى)؛ فمن صورة الفناء التي صورتها الاستعارة بهذا النسق من النظم، ومن العظم الواهن- وهو آخر ما يضعف في جسم الإنسان- ومن الشيب الذي كلل المفرقَ، من صورة الموت هذه، يهب الله الحياة، يهب الله (يحيي).
وكذلك حديثه في أبيات “كثير عزة”([5]) لَيؤكد عمق التذوق الفني عند الشيخ، إذ غلب القول قبله في هذه الأبيات على أنها”مما حسن لفظه وقل معناه”، ذهب إلى ذلك ابن قتيبة،([6]) ووافقه ابن قدامة،([7])ونقل عنه الباقلاني.([8])
بينما ذهب إلى استحسان ما بالأبيات من استعارة، دون بيان أو توضيح-كل من ابن طباطبا،([9]) والقاضي الجرجاني.([10]) ولم يسلك مسلك الشيخ في تذوق هذه الأبيات تذوقاً فنياً إلا ابن جني في خصائصه حين فصل القول وجلىَّ البلاغة في هذه الأبيات.([11])
لقد كان لاختلاف زاوية التذوق عند عبد القاهر وابن قتيبة أثر فيما قضيا؛ فزاوية التذوق عند الشيخ تختلف عنها عند ابن قتيبة. بنى ابن قتيبة حكمه على الأبيات من خلال نظرة أخلاقية، وليست فنية؛ وهو ما تؤكده المعاني الأخلاقية العامة الملموسة فيما استحسنه من أبياتٍ لفظاً ومعنىً.([12]) بينما كان عبد القاهر منشغلاً بقضية فنية، قضية المزية للمعنى لا اللفظ، وبمعيارية فنية يوطد من خلالها نظرية النظم، فأفضى به ذلك إلى تحسس جمال الأبيات وروعة معانيها التي بنيت على ألفاظٍ هي خدم لها، ومن ثم تذوق عبد القاهر ما لم يتذوقه ابن قتيبة.
====================
(1) دلائل الإعجاز، ص551، 552. ويفسر الشيخ ما ذكره فى نفس الموضوع بقوله:”ونظير ذلك أنك تقول: ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي”وكذلك تقول: ( ليس ذم الناس من شأني)، ولا تقول: (ليس ذمّي الناس من شأني)، لأن ذلك يوجب إثبات الذم ووجوبه منك”. السابق، الصفحة نفسها.
(4) الشواهد الداعمة التي ساقها عبد القاهر هي: قول دعبل :
أضيافُ عِمرانَ في خِصْبٍ وفي سَعَةٍ … وفي حِباءٍ غيرِ مَمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنوعِ
وضيفُ عمرٍو وعمرٌو يسهـــــــرانِ معــــــاً … عمرٌو لِبِطنَتِهِ والضيفُ للجـــــــــوعِ
وقولُ الآخَر: وإنْ طُـــــــرَّةٌ راقَتْــكَ فانظُـــــــــــــرْ فربَّمـــــــــــا … أمرٌ مذاقُ العودِ والعُودُ أخضــــــــــرُ
وقولُ المتنبي: بمنَ نَضْرِبُ الأمثـــــــــــــالَ أمْ مَنْ نَقيسُهُ … إليك وأهلُ الدّهْرِ دونَكَ والدَّهــرُ
ثم يعقب على ذلك بقوله:” ليس بخفيٍّ على مَنْ لَهُ ذوقٌ أنه لو أتى موضعُ الظاهر في ذلك كلّه بالضمير فقيل : وضيفُ عمرٍو وهو يسهران معاً وربما أمرَّ مذاق العُودِ وهو أخضرُ وأهل الدهر دونَكَ وهو لعُدم حسنٌ ومزية لا خفاءَ بأمرِهما . ليس لأن الشعرَ يَنْكَسِرُ ولكن تنكرهُ النفس” دلائل الإعجاز ، ص556.
(5) الأبيات هي: ولَمّا قضينا من مِنىً كلَّ حاجـــــــــــــةٍ ومَسَّحَ بالأركانِ مِن هو ماســــــــــــــحُ
وشُدّتْ على حُدْبِ المَطايا رِحالُنا ولم يعرف الغادي الذي هو رائحُ
أخذْنا بأطـــــــــــــــرافِ الأحاديثِ بيننا وسالتْ بأعناقِ المَطيِّ الأباطــــــــــحُ
وقد ذكر عبد القاهر الشطر الأخير فقط من البيت الأخير من تلك الأبيات في “الدلائل”، وذكر ثلاثتها في “الأسرار”، وحللها وأطال الوقوف عندها، وأزعم أنه أراد أن يستأنف في الدلائل ما وقف عنده ابن جني في الخصائص؛ حيث ذكر ابن جني البيتين الأول والثالث، وفصّل القول في الأول وصدر الثالث، وأوجز في عجزه، فأطنب الشيخ عبد القاهر الحديث فيه، ومن ثم فلا شك أن الشيخ كان من منهجه أن يقتل القديم بحثا، ليبني على جهد سابقيه، ويبدأ من حيث ينتهون.
- – ينظر: دلائل الإعجاز، ص74، 75، 294، 296.
- – و”أسرار البلاغة”، تحقيق: محمود محمد شاكر،مطبعة المدني، القاهرة، ط1، 1412/1991، ص21وما بعدها.
- -و”الخصائص”، أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق: محمد علي النجار، ج1ص218.
(6) ذكر ابن قتيبة أن هذه الأبيات “مما حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى”.
– ينظر: ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق:محمود محمد شاكر، دار المعارف،ج1ص66.
(7) حيث ذكرها ابن قدامة في باب ما ينعت فيه اللفظ بأنه “سمحاً، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة، مثل أشعار يوجد فيها ذلك، وإن خلت من سائر النعوت للشعر”.- أبو الفرج قدامة بن جعفر، نقد الشعر، تحقيق وتعليق:محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة الكليات الأزهرية، ط1، 1400/1980، ص74.
(8) حيث يصفها بأنها “من الشعر الحسن الذي يحلو لفظه وتقل فوائده”، وأنها “ألفاظ بديعة المطالع والمقاطع حلوة المجاني والمواقع قليلة المعاني والفوائد”- الباقلاني أبو بكر محمد بن الطيب، إعجاز القرآن، تحقيق : السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، ط5، ص221، 222.
(9) حيث أشار إلى أن ” القوم أدق طبعاً من أن يلفظوا بكلام لا معنى تحته “، وأنك لكي تصل إليه عليك أن” تبحث عنه وتنقر عن معناه”، يقول ابن طباطبا:” فإذا اتفق لك في أشعار العرب التي يحتج بها تشبيه لا تتلقاه بالقبول، أو حكاية تستغربها، فابحث عنه ونقر عن معناه، فإنك لا تعدم أن تجد تحته خبيئة إذا أثرتها عرفت فضل القوم بها، وعلمت أنهم أدق طبعاً من أن يلفظوا بكلام لا معنى تحته”.عيار الشعر لابن طباطبا، تحقيق محمد زغلول سلام، طبعة منشأة المعارف – الإسكندرية، سنة 1985، ص49.
(10) حيث ذكرها من بين نماذج على الاستعارة الحسنة في سياق حديثه عن أن العرب” إنما تُفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحّته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلّم السّبْق فيه لمَنْ وصف فأصاب، وشبّه فقارب، وبدَهَ فأغزَر، ولمَن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته؛ ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفِل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريض. وقد كان يقع ذلك في خلال قصائدها، ويتّفق لها في البيت بعد البيت على غير تعمد وقصْد، فلما أفْضى الشعر الى المحْدَثين، ورأوْا مواقعَ تلك الأبيات من الغرابة والحسن، وتميّزَها عن أخواتها في الرشاقة واللطف، تكلّفوا الاحتذاء عليها فسمّوْه البَديع؛ فمن محسن ومسيء، ومحمود ومذموم، ومقتصد ومُفرط”.- القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق:هاشم الشاذلي، دار إحياء الكتب العربية،(د.ت)، ص31، 32.
([11]) تناول ابن جني تحليل البيت الأول والثالث من هذه الأبيات وبيان مزاياها في كتابه “الخصائص” الجزء الأول من ص217 إلى ص221.
(12) يعلل الدكتور عبد الفتاح عثمان هذا المنحى الأخلاقي عند ابن قتيبة بقوله: “ولعل اشتغال ابن قتيبة بدراسة القرآن وعلوم الحديث أثَّر عليه في تصور الشعر ذا رسالة أخلاقية تهدف إلى بناء الإنسان روحيا..”، يرجع لكتابه: نظرية الشعر في النقد العربي القديم، مكتبة الشباب، القاهرة، 1998م، ص19.