حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

وراء كل عظيم كلمة (6) عظم أثر الكلمة مع بساطة قائلها.. بقلم أ.د/ رفعت علي محمد

أستاذ البلاغة والنقد وعميد كلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر

إذا كان للكلمة هذا الأثر الفعال، وذلك التوجيه المؤثر في نفوس أولئك الرواد والعظماء، فإننا نقف هنا مع بعض تلك النماذج المشرقة لبعض – روادنا ومفكرينا – ممن أثرت فيهم كلمات هادئة في مبناها، لكنها متدفقة في معناها.

ربما خرجت الكلمة من إنسان لم يحتل من الثقافة مكاناً رفيعاً، ولم ينل من التعليم حظاً كبيراً، لكن إحساسه بالمعنى، ومعايشته للقضية، مع استغلال الموقف استغلالاً جيداً، ربما جعل للكلمة نفوذاً قوياً وأثراً نافذاً لا تجدها في أساليب أبلغ البلغاء، ولا في كلام أعظم المفكرين، فالكلمة من قائلها بمعناها في نفسه، لا بمعناها في نفسها كما يقول العز بن عبد السلام.

لا أحد منا يجهل قدر الشاعر والمفكر السياسي، والاقتصادي البارع (محمد إقبال)، ذاك الرجل الذي حمل همَّ الأمة على عاتقه، وهمَّ شبه القارة بين جوانحه، وقد كان المنظّر لاستقلال دولة باكستان.

وللرجل مؤلفات كثيرة بلغات عدة، ودواوين شعر ترجمت للعربية ولغات أخرى لكن ما أود الإشارة إليه هنا أن هذا المفكر قد فرض نفسه على العالم العربي والإسلامي، وتسلل إلى عقولهم وقلوبهم، بقوة نفوذ ربما لم يستطعها مفكر سواه.

وقد ترجم العقاد محاضراته في كتابه أسماه (تجديد الفكر الديني في الإسلام) وربما كان السبب وراء هذا هو ارتباط إقبال بالقرآن ومعايشته له تلاوة وتعبداً وسلوكاً، حتى ملأ جوانحه ومشاعره، وفاض على لسانه وجوارحه، فكان – بحقٍ – رجلاً قرآنياً.

وقد كان وراء ذلك كلمة والده حينما سمعه يقرأ القرآن: يا ولدي: اقرأ القرآن، كأنما نزل عليك وهي كلمة هادئة، من رجل لم ينل حظاً من التعليم، فقد كان تاجراً كادحاً في كسب رزقه، لكنه عاش المعنى، وملأ عليه جوانحه، فخرجت كلماته صادقة معبرة، أصابت الهدف وحققت المراد، فحولت الصبي من قارئ إلى متدبر، ومن تالٍ إلى متأمل، ومن شخص يقرأ بلسانه إلى إنسان يعيش القرآن بعقله وقلبه ويتمثل أوامره ونواهيه، ويتغلغل في مشاعره وأحاسيسه.

يقول إقبال: ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست ومن درره ما نظمت.

وهكذا وضع الوالد اللبنة الأولى في وجدان ابنه من أجل تكوين عقلية واعية، وشخصية قوية، لا تقنع من قراءة القرآن بإصلاح الذات، والانكفاء على النفس، بل يقرأه وكأن الله يخاطبه ويدعوه للعمل والنهوض بأعباء المسئولية التي ينبغي أن يتحملها المصلحون والمفكرون … وهو ما قام به الرجل على وجهه الذي أراده الله له.

ويبدو أن الوالد – على قلة ثقافته، وتواضع علمه – كان حكيماً فريداً، رزق من صفاء النفس، وقوة الحجة، ما لم يرزقه كثير من المثقفين، فكان لكلماته وقع آسر، وأثر نافذ في شخصية ولده.

يظهر هذا من موقف حكاه إقبال وبين أثر ذلك الموقف في حياته وتكوينه النفسي والسلوكي.

يقول إقبال: وقع على بابنا سائل كالقضاء المبرم، طرق بابنا طرقاً متوالياً فثرت غضباً وضربته بعصا على رأسه، فتبعثر ما جمعه بسؤاله، ورآني والدي فاغتَّم، وسال الدم من عينيه.

قال أبي: تجتمع غدً أمة خير البشر … ويأتي هذا السائل المسكين في هذا المحشر شاكياً، فماذا أقول إذا قال لي النبي (صلى الله عليه وسلم): ” إن الله أودعك شاباً مسلماً فلم تؤدبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعله إنساناً “.

كلمات هادئة، لكنها موجعة، بسيطة، لكنها عميقة، خرجت نابضة من حياة قلب قائلها، متدفقة من حرارة فؤاده، فلامست فؤاد الصبي وتركت فيه معاني رائقة، وسلوكيات راقية، لم يستطع الزمن أن يمحوها أو يبليها.

لم يحتجب هذا المعنى عن قلب إقبال مدة حياته، حتى بعد أن نال ما نال من الشهرة والثراء والمجد، وذكر هذا الموقف في كثير من كتبه، وأثره فيه، وكيف جعله يحب الفقراء، ثم كيف ارتضى لنفسه أن يلتزم حياة الزهد والتصوف، العازف عن لهو الدنيا ومتاعها مهما أقبلت عليه.

ومن موقف لأب حكيم مع تواضع علمه، إلى موقف شبيه مع أم حكيمة مع بساطتها…

ربما يبدو التشابه بين الموقفين في بساطة القائل مع صدقه، وفي ارتباطهما بالذكر الحكيم الذي تخشع له قلوب المؤمنين وإن لم يفقهوه، وفي اتحاد المنطقة الجغرافية التي ينتمي إليها هذان العلمان، فهي بيئة غير عربية، لكنها لا تقل عن البيئات العربية عشقاً للقرآن، وتعلقاً بتلاوته وتدبره.

لقد دخل الشاب على أمه وهي تقرأ القرآن باكية، فلما سأل عن سبب البكاء، أجابته بكل صدق: وكيف لا أبكي يا بني والله يخاطبني ويرسل إلي رسائل من السماء لا أفهمها.

إنها كلمة موجعة ليست للابن وحده، بل لكل عربي قصر في نشر لغة القرآن وتعليمها لغير الناطقين بها، فهو قد تهاون في إيصال رسالة الله إلى خلقه، وقصر في إفهامهم مراد الله وأحكامه.

لقد نهض الابن لتحمل هذه الرسالة السامية، وغيرت هذه الكلمة الصادقة وجهة الابن الذي كان ذكياً متفوقاً، يستعد لدراسة الهندسة، فإذا به بعد سماع هذه النفثة الصادقة، يتفرغ لدراسة العربية حتى حاز على الدكتوراه في آدابها.

لقد فقه د/ نور (وهو اسم الابن) أن العربية مفتاح فهم القرآن، والوقوف على أسراره ومراميه، فجند نفسه لهذه الغاية النبيلة، وتسلح لها بأسلحة عدة من سمو المقصد، ونبل الهدف، وقوة الإرادة وعلو الهمة، مع ذكاء وألمعية، شهد له بها كل من عاشره أو اقترب منه.

لقد قرأت أطروحة الرجل للدكتوراه، فهالني جمال أسلوبه وعمق معانيه وقلت لزميل، لو قدر أن ننزع غلاف الرسالة عنها لربما وقع في وهم أن الرسالة لعربي قُحّ، نشأ في بلاد العرب وتعلم في جامعاتها، ولم يكن الرجل – حينها -، قد فارق موطنه أصلاً.

وربما لا تكفي هذه العجالة لسرد ما تحلى به الرجل من ذكاء وعبقرية، لكني أشير إلى أنه لم يكن يوماً ككثير من إخوانه الأكاديميين، بل كان نسيج وحده في إحساسه بخطورة المسئولية الملقاة على عاتقه، وعظم الهمّ الذي يحمله بين جوانحه، فكان صاحب رسالة لا موظفاً يلقي ما في رأسه لتلاميذه قبلوها أم رفضوها، فهموها أم لم يفهموها.

لقد جند الرجل كتيبة من تلاميذه – وهم بعد في مرحلة الطلب – يكتبون ويترجمون وينشرون في صحف ومجلات عربية، فإذا جاء الأسبوع الثقافي للجامعة وجدت عرساً للعربية يزدان بالأشعار والخطب والمسرحيات، رائده هو ذاك الأستاذ الهمام، وطلابه ذو الهمم الفتية، والعقول الذكية، الذين وجدنا منهم – بعد – الأستاذ الناجح، والإعلامي الصادق، والباحث الحصيف، والمترجم الدقيق.

إنها الكلمة الصادقة عندما تصادف نفساً طموحاً وعقلاً ناضجاً، وإرادة قوية، مع إحساس بالمسئولية وتقدير للرسالة.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu