مدخل : الحداثة ومابعدها ، ولغة النقد
من المقطوع به أن أهل كل لسان تنبع مناهجهم اللغوية ، ومذاهبهم النقدية والأدبية من لغتهم بما يلائم طبيعتها ، ومن طبيعة لغة العرب أنها لغة دين ودنيا تضرب بجذور ثابتة فى القدم ، ويمتد بصرها إلى كل جديد ولا يمنع ما فيها من خصيصة الثبات والتطور من الانتفاع بالآخر بما هو صالح من أطر عامة فى المناهج النقدية بما يعود بالنفع على النص وقارئه فهما واستنباطا وتأويلاً.
والمتابع المشهد النقدى الغربى يرى وثباته المتلاحقة التى ما تلبث أن تصل إلى جديد ، حتى يطويه ما هو أكثر منه جدّة ، ويخرج المشهد النقدى الغربى من تيه إلى تيه ، وما يتجاوزه المشهد النقدى الغربى بمراحل ، نرى النقاد العرب المحدثين يشدونه بأمراس كتّانٍ تحت سطوة الانبهار بكل إنجازات العقل الغربى، واحتقار كل إنجازات العقل العربى ، فصرنا ” أمام طوفان قادم من الغرب يهّددنا بإغراق كل شئ”(1)
” وقد تردّت الحركة النقدية العربية منذ بداية سبعينيات القرن الماضى عندما خلط بعض المثقفين العرب بين الرغبة المشروعة فى تحديث العقل العربى بعد الهزيمة العسكرية التى سميت بنكسة يونيو 1967 وبين الحداثة”(2)
والحديث عن ” تغلغل المشروع البنيوى فى واقعنا الثقافى فى منتصف الثمانينيات أمر مؤلم حقا فقد كانت البنيوية فى بلاد النشأة قد دفنت ووريت التراب منذ عام 1966م ” (3) وكل ذلك نابع من ازدواجية الولاء فقد أراد أولئك النقاد الحضور فى المشهد النقدى العربى ، والحضور فى المشهد النقدى الغربى فلاهم حضروا هناك ، ولاهم حضروا هنا.
وقد أضحى النقد العربى الحديث موغلا فى الإبهام والتعمية وصارت العناية فيه بنقل المصطلحات كما هى فى منابتها من بلاد الغرب دون تهذيب لها بما يوائم لغتنا وأدبنا ، وذلك أنهم نقلوا المصطلحات عن بلاد تعانى من أزمة المصطلحات النقدية والأدبية ” فالمصطلحات التى أفرزتها الحداثة الغربية فى تجلياتها فى المدارس النقدية الحديثة من بنيوية، وتفكيكية تثير أزمة عند قراء الحداثة الغربية ذاتها وتواجههم نفس مشاكلنا مع الفارق ، وترتفع الدعوات بين الحين والآخر لتوحيد المصطلح النقدى حتى نصل إلى دلالات معرفية نقدية شبه متفق عليها(4)” وقد سار النقد الغربى فى مراحل ثلاثة انتهت مؤخرا إلى إحكام سلطة القارئ ، وإهدار سلطة النص.
ونحن نعانى من لغة النقد الحديث أشد المعاناة ، فهم يحاولون بث الحياة فى النقد الغربي بلغة غير مفهومة ، وإن القارئ حينما يطالع بعض هذا النقد ” ولاسيما الصادر عن أقلام مغربية أو جزائرية يجد فيه من تشابك الجمل وازدحام المصطلحات المعربة، أو الأجنبية المروية بألفاظها ما يشق عليه فيضطر إلى قراءة النص كرة أخرى ليدرك أو ليتوهم أنه أدرك ما فيه ، ذلك أن التفسير وظيفة من وظائف النقد ، وغاية التفسير الإفهام، لا الإبهام. والتجلية، لا التعمية، وتفكيك العقد، لا إضافة عقد جديدة إليها، وتقريب القصىّ ، لا إقصاء القريب، وقد مر النقد الغربى بمراحل لها أصولها السياسية، ودوافعها الاجتماعية، وعواملها الاقتصادية، أما الذهن العربى فقد طلب إليه أن يتمثل نتائج تجارب لم يعايش أسبابها ودوافعها،وفرضت عليه ثقافة لم يشارك فى صنعها ونقلت إليه مذاهب أدبية ونقدية لم يتمثل معانيها ، وحملت إليه مصطلحات لم يستوعب دلالاتها ، ولهذا فهو حينما يراقب تطبيقها على الأدب العربى تغشاه دهشة ووحشة ويسكت على مضض”(5)
وقد انتهى النقد العربى التغريبى إلى سيل جارف من المصطلحات إما أن تعاد كتابتها بالحرف العربى بدلا من الحرف اللاتينى ، وإما أن يكون جزء منها عربيا،وآخر أعجميا ، وهذه بعض النماذج ( السوسيو نقدية ـ السيميائية التعاقبية ـ السميوطيقا ـ السيميوطقية الشعرية ـ استعارة أنطولوجية ـ ايقونية الكتابة ـ الميتانقد ـ الميتالغة ـ دوغمائيات الإخلاص للنص الأصلى ـ التمعنى ـ الإنتاجية ـ التداولية النصية ـ التواصلية ـ النمذجة الوصفية … الخ مما يفضى إلى التعمية على القارئ العربى إما قصدا ، وإما عرضا.
=================
(1) الخروج من التيه ـ سلطة النص ص 7 د/ عبد العزيز حمودة ط عالم المعرفة
(2) السابق ص 8
(3) المرايا المحدبة ص 15 د/ عبد العزيز حمودة ط سلسلة عالم المعرفة
(4) المرايا المحدبة ص 33
(5) على محك النقد ـ لغة النقد د/ غازى مختار طليمات جريدة البيان الإماراتية 23 مايو عام 2002م