حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

تذوق “عبد القاهر” الفني في كتابه “دلائل الإعجاز” [الحلقة السابعة] بقلم د. محمد عرفة

الأستاذ المساعد بجامعة الجوف بالمملكة العربية السعودية

منهج عبد القاهر الجرجاني في تذوقه الفني

       أشرت في التمهيد إلى أن التذوق قد يُسبق بذوق عام غير معلل، وقد يليه تذوق فني يؤصل لمعيار وضوابط بلاغية. وقد تمثل هذا النسق في “دلائل” عبد القاهر، وتعددت في كتابه مواضع الذوق والتذوق والتذوق الفني.

       ولعل تعليقه على أبيات البحتري التي نمثل بها على منهجه في التذوق الفني يجلي ما عنيته.

يستشهد الشيخ في باب “القول في نظم الكلام ومكان النحو منه” بأبيات البحتري حيث يقول: ([1])

بَلَوْنَا ضَرَائِبَ مَن قد نَـــــــــــــرَى 
فَما إِنْ رأَيْنا لِفتحٍ ضَريبــــا
هُوَ المرءُ أبدَتْ له الحادِثاتُ
عَزْماً وَشيكاً ورأياً صَلِيبـــــــا
تنقَّـــــــــلَ في خُلُقَــــــــــــــــــيْ سُؤْدُدٍ  
سَماحاً مُرجَّى وبَأساً مَهيبا
فكالسَّيــــــفِ إِن جئتَهُ صارِخاً     
وكالبَحْرِ إِن جئتَهُ مستَثِيبــاً

     فيبدأ الشيخ بمرحلة الذوق”فإِذا رأيتَها قد راقَتْك وكَثُرت عندك ووجدتَ لها اهتزازاً في نفسك فَعُدْ فانظرْ في السَّببِ واستقصِ في النَّظر”،([2]) مرحلة أوليه، قد تكون للعامة والخاصة وخاصة الخاصة، هي المرحلة التي تعود إلى الشعور بالاستمتاع واللذة والأريحية حين سماع أهل الذوق الأدبي لنمط عالٍ من فنون القول.

     ثم يرتقي إلى المرحلة التالية التي يدركها الخاصة دون العامة، مرحلة التذوق” فإِنك تعلمُ ضرورةً أنْ ليس إِلاّ أنه قدَّم وأخَّر وعَرَّف ونكَّر وحَذفَ وأضمرَ وأعادَ وكرَّر وتوخَّى على الجُملةِ وجها منَ الوجوه التي يَقتضيها علمُ النّحو فأصاب في ذلك كلَّه ثم لطُفَ موضعُ صوابه وأتى مأتًى يُوجب الفضيلةَ”.([3])  

      ثم يرتقي الخطوة الأخيرة، التحليل والتدسس والتفتيش عن مواضع المزية مستعينا بضوابط وأصول فن البلاغة، والوقوف على مواضع الاستحسان، والتدقيق والتأمل من أين كان؟!” أفلا تَرى أنّ أولَ شيءٍ يَروقُك منها قولُه:”هو المرءُ أبدتْ له الحادثات” ثم قولُه: “تنقَّل في خُلقَيْ سُؤددٍ”، بتنكير السُّؤدد وإِضافةِ الخلقينِ إِليه. ثم قولهُ:”فكالسَّيف” وعطفه بالفاء مع حَذفهِ المبتدأَ لأنَّ المعنى: لا محالةَ فهو كالسَّيف. ثم تكريرهُ الكاف في قولِه:”وكالبحر” ثم أنْ قَرنَ إِلى كلَّ واحدٍ منَ التَّشبيهين شرطاً جوابُهُ فيه. ثم أَنْ أخرجَ من كلَّ واحدٍ منَ الشَّرطين حالاً على مثالِ ما أخرجَ من الآخر وذلك قولهُ: “صارخاً” هناك “ومُستثيباً” هاهُنا”.([4]) تلك الخطوة الأخيرة، خطوة التذوق الفني التي تنتهي بإقرار معيار بلاغي فني منتخب من الشواهد، وليس معيارا منطقيا مفروضا عليها، المعيار الذي يقره الشيخ في باب النظم، وهو أنك” لا تَرى حُسناً تنسبُه إِلى النَّظمِ ليس سببهُ ما عددتُ أو ما هو في حكم ما عددتُ فأعرفْ ذلك”.([5])

      ذق، وتذوق، ثم انقد وحلل وانتخب معيارا بلاغيا أو نقديا مما بين يديك من فنون القول على اختلاف أجناسها. أو لنقل: استشعر الجمال، وقف على علله وأسبابه، ثم تدسس داخل الكلمات وتفكر وتأمل وحلل وتدبر؛ لتصل إلى غاية هذا الجمال، وإلى الغاية منه، ثم تنتخب معيارا نقيس به وعليه مواضع المزية في أي فن آخر من فنون القول. هذا هو التذوق الفني في صورته المكتملة، وعند أهله من طبقة البلاغيين ممن في قامة الإمام، ممن في قامة الشيخ عبد القاهر الجرجاني.

     وأنت في حاجة إلى تأكيد سلامة هذا التذوق الفني، وصدق وصحة ذلك المعيار البلاغي، فاجلب شاهدا، وآخر لتستوثق الأمر، “وإِن أردتَ أظهرَ أمرا في هذا المعنى فانظُرْ إِلى قولِ إِبراهيمَ بنِ العَبّاس:

 فلو إِذ نَبا دهرٌ وأُنكِرَ صاحبٌ              وسُلَّطَ أعداءٌ وغابَ نصيرُ  

 تكونُ عنِ الأهوازِ داري بنَجْوةٍ              ولكنْ مقاديرٌ جرتْ وأُمورُ

      وإِنّي لأرجو بعدَ هذا محمَّـــداً               لأفضلِ ما يُرْجَى أخٌ ووزيرُ” ([6])

       ومن سمات منهجه، إشراكه المتلقي في التذوق والاستمتاع معه، ولذا وقف على مواضع المزية وأشار إليها، دةن أن يطنب في تحليلها، ولا يعارض ذلك ما سبق القول من كونه يفسر ويحلل، فهو إنما يعلل لإعجابه واهتزازه، بذكر مواضع المزية ومواطن البلاغة، ثم قد يحللها ويفسرها فيمواضع ويسكت عنها في أخرى، إشراكا منه للقارئ وتدريبا له على إعمال ملكة التذوق لديه. 

        والشيخ يؤسس لمنهج في التذوق الفني، ويضع أسس علم نهتدي به، وهو ما لم يدركه من عاب على الشيخ أنه حلل جانبا وأهمل آخر في تحليله لأبيات البحتري.([7])

========================

([1]) دلائل الإعجاز، ص85.

([2]) السابق، الصفحة نفسها.

([3]) السابق، الصفحة نفسها.

([4]) السابق، ص85، 86.

([5]) دلائل الإعجاز، ص86.

([6]) الأبيات في الدلائل، بعد الأبيات السابقة مباشرة، ويعلق عليها الشيخ بقوله:” فإِنك تَرى ما ترى من الرَّونق والطَّلاوة ومن الحُسنِ والحَلاوة ثم تتفقَّدُ السّببَ في ذلك فتجدُه إِنَّما كان من أجلِ تقديمهِ الظَّرفَ الذي هو ” إِذْ نبا ” على عاملهِ الذي هو ” تكونُ ” . وأنْ لم يقلْ : فلو تكونُ عن الأهوازِ داري بَنحوةٍ إِذْ نبا دهرٌ . ثم أنْ قال : ” تكونُ ” ولم يقلْ : ” كان ” ثم أنْ نكَّر ” الدهرَ ” ولم يقل : ” فلو إِذ نبا الدَّهرُ ” ثم أَنْ ساقَ هذا التنكيرَ في جميعِ ما أتى به مِن بعدُ . ثم أنْ قال : ” وأُنكِرَ صاحبٌ ” ولم يقل : وأنكرتُ صاحباً . لا تَرى في البيتين الأوّلين شيئاً غيرَ الذي عَددتُه لك تجعلُه حسناً في النَّظم وكلّهُ من معاني النَّحو كما ترى . وهكذا السّبيل أبداً في كل حُسنٍ ومَزيَّةٍ رأيتَهما قد نُسبا إِلى النظمِ وفضلٍ وشَرفٍ أُحيلَ فيهما عليه”.  – دلائل الإعجاز، ص86.

([7]) عابت الدكتورة نجاح الظهار في رسالتها (الشواهد الشعرية في كتاب دلائل الإعجاز)، على الشيخ إهماله دلالة اختيار الكلمات، حيث تقول:”وبالنظر إلى مواطن الحسن التي أشار إليها الشيخ، نجده قد حصر جودة هذا الشعر على ما ذكره من تقديم وتأخير وتعريف وتنكير….إلخ، وأهمل دلالة اختيار الكلمات على ما في الشعر من بلاغة”. الرسالة مخطوطة بجامعة أم القرى،جـ1، ص222.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu