Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

المكتبة الشاملة والبحث العلمي (بين الاستثمار وسوء الاستخدام) [3] بقلم أ.د/ عصام فاروق

خامسا- سوء استخدام الباحثين لها:

     هذا المحور على وجه التحديد هو السبب الذي دعاني إلى كتابة هذا المقال، لما رأيته من سوء استخدام الباحثين للمكتبة الشاملة، واعتمادهم على ما ورد فيها كأنه كلام مقدس لا يحتاج إلى توثيق ومراجعة من المصادر الورقية منها والمصورة.

     ولعل سوء الاستخدام هذا كان من الأسباب التي عززت ريبة الأجيال السابقة من أساتذتنا وعلمائنا الكبار، ممن ينظر بعضهم إلى المكتبة وغيرها من الوسائل الحديثة للبحث، كالإحالة إلى الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت) بنوع من التوجس والشك في عدم الدقة أو النظر إلى اللجوء إليها على أنه استسهال لابد ألا يقع فيه الباحثون.

     لكن مع الوقت ومع بيان المميزات التي توافرت عليها الشاملة، خصوصا فيما يتعلق بتطوير آليات البحث العلمي، والعمل على إنجاز مراحله بصورة أسرع من الوسائل التقليدية الأخرى، كالرجوع إلى المكتبات العامة..إلخ. بدأ العلماء والباحثون يتنبهون إلى أن الرفض الكلي لما جاءت به هذه التقنية غير موفق أو تنقصه الموضوعية في الحكم، لكن يبقي أن هناك سوء استخدام لها من قبل بعض الباحثين.

     ومن هنا فقد رأيتُ أن أضعَ بين يدي الباحثين بعضًا من المخاطر التي من الممكن أن يقع فيها عند سوء استخدامه للمكتبة الشاملة، وأوجه تلافي هذه المخاطر، معتمدا في ذلك على نماذج وقعت بين يدي من خلال تعامل بعض للباحثين مع المكتبة:

المثال الأول:

نقل أحد الباحثين عن (الشاملة) هذا النص من (كتاب التحرير والتنوير) للطاهر بن عاشور: (وَكَثُرَ إِطْلَاقُ الظَّنِّ عَلَى التَّصْدِيقِ الْمُخْطِئِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [116] . وَقَوْلِهِ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يُونُس: 36] .وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ«. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اعْتِقَادَكُمْ فِي جَانِبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَهْلٌ مُنْكَرٌ. وَفِعْلُ الظَّنِّ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ أَشْعَرَ غَالِبًا بِظَنٍّ صَادِقٍ قَالَ تَعَالَى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَاب: 10] وَقَالَ: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ [فصلت: 23]) ([1])   

     وبمطابقة هذا النص مع النسخة الورقية([2])- بخلاف نقص بعض علامات الترقيم- عثرتُ على خطأين في النص السابق:

الأول: سقطتْ كلمتان من الحديث النبوي الشريف، فنصُّ الحديث: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ«.

الثاني: سقطتْ كلمةُ (غير) من قوله (وَفِعْلُ الظَّنِّ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ أَشْعَرَ غَالِبًا بِظَنٍّ صَادِقٍ) وصواب النص: (وَفِعْلُ الظَّنِّ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ أَشْعَرَ غَالِبًا بِظَنٍّ غيرِ صَادِقٍ). ومن الواضح أن سقوط هذه الكلمة أدى إلى نقيض ما يقصد المفسر، وخالف الاستشهاد الذي أتى به بعد ذلك من قوله تعالى: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) ([3])، وقوله تعالى: (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُم بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) ([4]) حيث إن الظن فيهما غير صادقٍ.

   ومما يلاحظ على بيانات الكتاب الموجود على الشاملة أنه مكتوب في حالته: [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي، وضمن خدمة مقارنة التفاسير].

   وقد يعتقد بعض الباحثين أن عبارة (موافق للمطبوع) هذه تغني عن الرجوع إلى الكتاب المطبوع نفسه، وهذا المثال مما يدحض هذا الاعتقاد الخاطئ.

المثال الثاني:

وتزداد هذه مشكلة النقل دون توثيق خطورةً إذا بنى الباحث على هذه الخطأ حكمًا لغويًّا أو نتيجة يضيفها إلى بحثه، وهذا المثال يوضح لنا ذلك: هذا النص الذي نقله أحد الباحثين عن (الشاملة) من معجم (تاج العروس) ” (والهَامُومُ: مَا أُذيبَ مِنَ السَّنَامِ).. (والهُمَام، كَغُرَابٍ: مَا ذَابَ مِنْهُ). (و) الهَمَامُ (مِنَ الثَّلْجِ: مَا سَالَ مِنْ مَائِهِ) إِذَا ذَابَ.. والهُمَامُ: (المَلِكُ العَظيمُ الهِمَّةِ) الَّذيِ إِذَا هَمَّ بأَمْرٍ فَعَلَهُ، لِقُوَّةِ عَزْمِهِ. (و) أَيْضاً: (السَّيِّدُ الشُّجَاعُ السِّخِيُّ، خَاصٌّ بِالرِّجَالِ) ولاَ يَكُونُ فِي النِّسَاءِ”([5])

وبنى عليه أن كلمة (الهُمام) يعد مشتركًا لفظيًّا بين المعاني التالية:

   في حين أن (الهَمَام) – بفتح الهاء ليس منه- من الثلج، بمعنى ما سال من مائه؛ فهناك فرق دلالي بين الكلمتين، لاختلاف الصيغتين.

   وفي الحقيقة عندما عدتُ إلى النص في النسخة الورقية من الكتاب([6]) وجدت أن (الهمام من الثلج) بضم الهاء أيضًا، مما يُدخل هذا المعنى أيضا ضمن المعاني التي تشترك في اللفظ نفسه، ولتتكامل في فكرة الذوبان التي للسنام، فمثله الذوبان وإن كان للماء من الثلج.

   إذا فـ(المكتبة الشاملة) كأي آلية بحثية لها ما لها وعليها ما عليها، وتبقي إمكانية الاستثمار  وفي مقابلها سوء الاستخدام في يدي الباحث، فيفيد من مميزات هذه المكتبة في شمول المصادر والمراجع وتنوعها، وسهولة البحث وتوفير الكثير من الوقت، لكن لابد من الحذر فيما يتعلق بالنقل عنها أو التوثيق من خلالها أو غيرها من الفنيات البحثية الدقيقة.

((انتهى))

====================

(1) يمكن الرجوع إلى هذا النص على الرابط التالي: http://shamela.ws/browse.php/book-9776#page-7877

(2) في الجزء (23) صفحة (140)، طبعة الدار التونسية للنشر – تونس، 1984، وهي الطبعة نفسها التي نقلتها الشاملة كما هو واضح من بيانات الكتاب، على الرابط التالي: http://shamela.ws/index.php/book/9776

(3) الأحزاب من الآية (10).

(4) فصلت من الآية (23).

(5) يمكن الرجوع إلى هذا النص على الرابط التالي:

     http://shamela.ws/browse.php/book-7030#page-17805

(6) في الجزء (34) صفحة (120)، طبعة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، ط أولى 1421ه- 2001م