حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

مآخذ اللسانيات النصّيّة على البلاغة العربية.. بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب

على الرُّغْم من تعدد الدراسات الحديثة واختلاف مناهجها وأدواتها ومحيطها المعرفي ومساحتها فإنَّ اتِّهام البلاغة العربية بالنظرة الجزئية لم يشغل مساحةً من تفكير النقاد والأدباء المحدثين إلَّا مع ظهور لسانيَّات النصِّ، ذلك العلم الذي يعنى بإدراك العلاقات الداخلية والخارجية المكونة للنص بداية من المرسل ومرورًا بالمتلقي وانتهاءً بالرسالة، وما يحيط ذلك كله من ملابساتٍ اجتماعيةٍ وفكريةٍ وعقديةٍ وسياسيةٍ وفلسفيةٍ توثر بدورها في عمليات الإرسال والتلقي والرسالة.

وكان ممَّا سجَّلته الدراسات اللسانيَّات في منتصف القرن العشرين خلوُّ البلاغة العربية من المعالجة النصِّيَّة، التي تنظر للنصِّ على أنَّه وحدة كبرى يكون التفاعل معه في إطار النشاط الكلي للنصِّ، وليس في إطار الجملةِ وصحةِ الإسنادِ واستيفاءِ المكوناتِ النحويةِ من فعل وفاعل مفعول ومبتدأ وخبر…إلخ أو المكوناتِ البلاغيةِ من مشبهِ ومشبه به وأداةِ تشبيه ووجه شبه…إلخ.

وتظاهرتْ أقوال النصِّيين على وسم البلاغة العربية بالنظرة الجزئية، وأنَّها بلاغة تجعل من البيت الشعري والجملة هدفًا لها، ولا تتجاوز البيتَ إلَّا إلى البيتين ولا الجملةَ إلَّا إلى الجملتين، وربما عُدَّ هذا التجاوز -على الرغم من محدوديته- معيبًا أو بعيدًا عن عمود البلاغة كما سبق بيانه في الحديث عن “التضمين” في التراث البلاغي… حتى انتهى القول فيما بينهم بأنَّها جهاز معطل، لابدَّ من استبداله بعلم الأسلوبية، أو إضافة بعض التعديلات عليه بالحذف تارة أو الإضافة تارة أخرى([1]).

وممَّا ساعد على إصدار هذا الحكم وتكوين تلك الرؤية عن البلاغة العربية وجودُ بعض النصوص- في البلاغة العربية- التي تدعو إلى وحدة البيت، وعدم تعلقه بما بعده، بل وصل الأمر- عند بعض النقاد والبلاغيين-  إلى تفضيل البيت الذي يستقلُّ بمعناه على البيت الذي يحتاج في تمام معناه إلى ما بعده، وتفضيل الشاعر الذي يجمع في بيته معنيين على الذي يأتي بمعنى واحد، على نحو ما ذكره ابن وهب، وأنَّ المعنى كلما كان محصورًا في ربع بيتٍ أو شطر بيتٍ كان أقرب من عمود البلاغة، وكلما احتاج صدره لعجزه كان أبعدَ من عمودها.

وهي نظرةٌ تتعارض – تمامًا- مع النظرة الكلية التي تبناها علمُ النصِّ، وهو اتِّهامٌ واضحٌ في منهجيةعلم البلاغة، يقوم على انحيازها التام إلى الجزء على حساب الكل، ومن ثمَّ كان لا بدَّ من تتبُّع هذا النقد في مظانِّه والسياق الوارد فيه، والتعرض له ومناقشته، وعرضه على مائدة الدراسة.

وأوَّلُ من تنبَّه لفكرة المعالجة النصِّيَّة كعلم مَعْنِيٍّ بالخطاب ليس (هارس) أو(فان ديك) أو(دي بوجراند) كما يدَّعي بعض الحداثيين، إذ إنَّ جهود هؤلاء جاءت متوالية من منتصف القرن العشرين، وإنَّما بدأت هذه الفكرة على يد الشيخ أمين الخولي في كتابيه(فن القول) و(مناهج تجديد في الأدب والتفسير والنحو والبلاغة)، فهو أول من دعا إلى ضرورة مجاوزة البلاغة العربية إطار الجملة إلى النص في الثلاثينيات من القرن ذاته.

وبدلاً من أن يتمَّ استثمار هذه الدعوة التي نادى بها الشيخ أمين الخولي، ويصبح علم النص عربي النشأة أصيل الأَرُومة، ظلتْ تلك الدعوةُ حبيسة الفكر العربي حتى تولَّت رعايتَها الدراساتُ الغربيةُ، وهذا أمرٌ عجبٌ، والأعجبُ منه أنَّ بعض المحدثين عندما أفاقوا أفاقوا على أمر البلاغة العربية، باحثين على ثغرة ينفذون من خلالها لِلنَّيْلِ منها، ناعين عليها تلك النظرة الجزئية التي وقفت عند حدود البيت شعرًا، وحدود الجملة نثرًا، وأنَّها لم تعرف من أدوات الربط غير مبحثي (الفصل والوصل)، مما وقف حجر عثرة في الوصول إلى معالجة نصِّيَّة باستثناء ما قام به حازم القرطاجني من وجهة نظرهم.

وبصرف النظر عن صحة ما قالوا، فإنَّ هناك محاولاتٍ جادةً قامت على أسسٍ نصِّيَّة، لا ترقى الحداثةُ في أوج صورها أن تقدِّم نظائرها، كما هو واضحٌ في شتى الدراسات القرآنية والفقهية والبلاغية والأدبية والنحوية، وتُعدُّ محاولة حازم واحدة منها، وسيأتي الحديث عن ذلك في موطنه، وإنَّما عناية هذا المبحث تتجه لرصد المآخذ التي أخذها المحدثون على البلاغة العربية، “ومنها أن البحوث البلاغية القد†يمة في علم المعاني كانت تقتصر في جملتها على هذا المستوى من الترابط القائم بين وحدتين من القول فحسب، وذلك عند تحليل مشكلات “الفصل والوصل” لا تكاد تتعدى هذا النطـاق الجزئي المحدود، ممَّا جعل جهدها ينصبُّ على المستوى النحوي أو التركيبي القريب، دون أن يتجاوزه إلى النطاق الدلالي للفقـرة الـكـامـلـة أو المتـتـالـيـة النصية، فضلاً عن أنَّه لم يشمل نصًّـا تـامًّا فـي الـبـلاغـة الـقـديمة، الـلـهـم باستثناء حالة فريدة لم تتكرر ينبغي الإشارة إليها والتنويه بها، وهي التـي تجدها عند بلاغيٍّ مغربيٍّ متأخر هو “حازم القرطاجني” في تحليله لأجزاء القصيدة، وتسميته لكلِّ قسم منها فصلاً. و‘تمييزه بين المطلع-وهـو الـبـيـت الأول منها – والمقطع: وهو مكان الوقوف، ولا يهمل الإشارة إلى طريقة وصل الفصول بعضها ببعض، بل يفعل ذلك بأسلوب الشرط; إذ يشترط أن يكون معنى كل فصل تابعًا لمعنى سابقه ومنتسبًا إليه في الغرض، ويُسمي ذلـك تسمية اصطلاحية “الاطـراد فـي تـسـويم رؤوس الـفـصـول”،  ويمضـي فـي تطبيق هذه التصورات على قصيدة المتنبي:

 أُغـالـب فـيـك الـشـوق والـشـوق أغلب

فيوردها كاملة، محللاً العلاقة بين أجزائها ووحداتها المكونة على هذا الأساس الدلالي الذي لا يقف عند حدود الـتـعـالـق الـنـحـوي بـين الجملتين”([2]).

وكي يؤكد الدكتور/ صلاح فضل كلامه كان لابدَّ له من دليل – تراثي- يتكئ عليه، ويبرهن به على دعواه، وهو ما وجده في رفض البلاغيين القدامى لفكرة “التضمين” التي تعني الترابط الدلالي واللفظي بين الأبيات، فيقول: “ويكفي لكي ندرك التحول الجذري في مثل هذا الموقف الفريد أن نتذكر ما كان يقوله البلاغيون القدماء عن “التضمين”، وهو-في مصطلحهم-الارتباط الدلالي المباشر أو التعالق النحوي بين الأبيات المختلفة، إذ يـعـتـبـرون مـثـل هذا الارتباط من العيوب التي يجب على الشاعر تفاديها، وبهذا فإنَّهم لـم يكونوا يقتصرون على تناول الجزئيات دون الاهتمام بالطابع الكلي للـنـصِّ الشعري، بل إنهم قاموا بدور خطير- ومتناقض فـي كـثـيـر مـن الأحـيـان- فـي تكريس هذه النزعة الجزئية، و”التضمين” – كما يقول أبو هلال العسكري مثلاً- هو أن يكون الفصل الأوَّل مفتقرًا إلى الفصل الثاني، والبيت الأول محتاجًا إلى الأخير، كقول الشاعر:

كأنّ القلب ليلة قيل يُغدى * بليلى العامريّة أو يراح

قطاةٌ غرّها شرك فباتت *  تجاذبه وقد علق الجناح

ويعلق على ذلك بقوله: “فلم يتم المعنى في الـبـيـت الأول حـتـى أتمَّه‘ فـي البيت الثاني، وهذا قبـيـح”. ومن الواضح أنَّ الصورة الشيقـة فـي هذه الأبيات الغزلية العذبة لم تشفع للشاعر عند البلاغي المعياري الصارم الذي يرى في البيت وحدةً نحويةً لا ينبغي أن تظلَّ مفتوحة بأيِّ شكل على البيت المجاور لها. على أن العسكري لم يكن شاذًّا في هذا الموقف. بل هو يعبر- ربما بشكلٍ فجٍّ مباشر-عن هذا النزوع الجزئي اللفظي للبلاغة العربية، المتجذر في التربة الثقافية والجمالية القد†يمة؛ حيث كان يعتبر البيت الشعري هو الوحدة الأساسية المكتملة، والقافيـة بـابـهـا الموصـد، عـلـى أن تـتـسـاوى الأبيات في نهاية المطاف، لكن لكل بيـت كـيـنـونـتـه وأسـراره، وهـو مـسـتـقـل بذاته، وقابل – فحسب – لحسن الجوار مع غيره، لكنه لا يكاد يكون معه أسرة متمازجة، ومن هنا فإنَّ كثيرًا من الأشكال البلاغية – إن لم تكن كلها تقريبًا – تنبثق عن هذه البنية المحددة، فمعظم ظواهر البديع-من طباق وجناس ورد للعجز على الصدر وغيرها- إنما هي استثمار جمالي لهذه الوحدة المنغلقـة نحويًّا ببابها الموصد. أي إنَّه كان لابدَّ من الاكتفاء الذاتي لكل بيت، وعـلـى جميع التنويعات الموسيقية والدلالية أن تحدث داخل حدود الـبـيـت، كـي لا تتسرب أسراره إلى الخارج”([3]).

وعليه؛ فإنَّ هذا التصور الخاص بنمط التفكير لدى البلاغيين والنقاد القدامى –في نظر المحدثين- قد عوَّق البلاغة عن القيام بدورها، وحصرها في إطار الناحية الشكلية، “وأن الحرص على استقلال كل بيت بمعناه، بحيث لا يتعلق معنى كلمة فيه أو فهمها بكلمة أخرى في بيت سابق أو لاحق، قد عوَّق الوعي البلاغي والنقدي لدى القدماء بأهمية الشكل الشامل للقصيدة، وفيما نحن بصدده قد عطل التفطن لقيمة العلاقات التبادلة بين عباراتٍ منتثرةٍ بين أبيات القصيدة، وليست محصورةً بالضرورة في بيت واحد”([4]).

يتبع…

أ.د صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد

ووكيل كلية العلوم الإسلامية

البريد الإلكتروني:saleh_hahmed@hotmail.cim

https://www.youtube.com/channel/UCSUJyz_yZLfFHnc9wyFoKiQ

https://www.facebook.com/saleh.ahmedabdelwahab.5

[1]ـ- ينظر: الأسلوب دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية – تأليف: أحمد الشايب- ط11 مكتبة نهضة مصر -2000م ص38، وينظر كذلك البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة- تأليف: سعد مصلوح- مجلس النشر العلمي- الكويت- الطبعة الأولى- 1973. ص70 – وينظر في ذلك كتاب الأسلوب لأحمد الشايب ص37، والأسلوب والأسلوبية – تأليف: عبد السلام المسدي-دار الكتب الجديدة- بيروت-الطبعة الأولى- 2006م- ص44.

[2]ـ- بلاغة الخطاب وعلم النص ص264.

[3]ـ- ينظر بلاغة الخطاب وعلم النص- تأليف: صلاح فضل- الناشر: عالم المعرفة- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت- 1992- ص263- 266 بتصرف.

[4]ــ  ينظر الصورة والبناء الشعري- تأليف دكتور: محمد حسن عبد الله- ص10

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu