حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الفروق الدلالية عند ابن القيم [1] الحمد والمدح بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم بكلية الدراسات العليا ووكيل كلية اللغة العربية بالقاهرة السابق

يقول ابن القيم: فالصواب بين الحمد والمدح أن يُقال: الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخباراً مجرداً من حب وإرادة, أو مقروناً بحبه وإرادته, فإن كان الأول فهو المدح, وإن كان الثاني فهو الحمد, فالحمد: إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه, ولهذا كان خبراً يتضمن الإنشاء بخلاف المدح فإنه خبر مجرد[1].

وذكر ابن القيم ما يؤكد كلامه في الفرق بين اللفظين من خلال السياق, فيقول: “فالقائل إذا قال الحمد لله, أو قال ربنا لك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الحمد المحققة والمقدرة, وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى, ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد, ولما كان هذا المعنى مقارناً للحمد, لا تقوم حقيقته إلا به فسّره من فَسّره بالرضى والمحبة, وهو تفسير له بجزء مدلوله, بل هو رضاء ومحبة مقارنة للثناء[2].

       ويحاول ابن القيم أن يوجد التمييز من خلال دلالة بناء كل منهما فحَمِد بكسر الميم على فَعِل – جاء على بناء الطبائع والغرائز، بخلاف مدح الذي جاء على فَعل الذي لا يتضمن ذلك، يقول: “ولهذا السَرَ – والله أعلم – جاء فعله على بناء الطبائع والغرائز فقيل: حَمِد لتضمنه الحب الذي هو بالطبائع والسجايا أولى وأحق من فَهِم وحَذِر وسَقِم ونحوه بخلاف الإخبار المجرد عن ذلك, وهو المدح, فإنه جاء على وزن فَعَل فقالوا مدحه, لتجرده من معاني الغرائز والطبائع”[3].

كما أن قوله الحمد لله, وربنا لك الحمد يتضمن الإنشاء وإن كان خبراً, فكأنه يتضمن الأمر بالحمد, والأمر إنشاء, يظهر ذلك من قوله: “وتأمل الإنشاء والثابت في قولك: ربنا لك الحمد وقولك الحمد لله, كيف نجده تحت هذه الألفاظ؟ ولذلك لا يقال موضعها المدح لله, ولا ربنا لك المدح, وسره ما ذكرت لك من الإخبار بمحاسن المحمود إخباراً مقترناً بحبه وإرادته وإجلاله وتعظيمه”[4].

فأنت ترى ابن القيمّ قد بين دلالة اللفظتين من عدة جهات، هى:

1- الحمد ثناء مقترن بحب وإرادة وتعظيم والمدح مجرد من ذلك.

2- الحمد متضمن الإخبار عن كل ما يُحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الحمد، المحققة والمقدرة, بخلاف المدح.

3- الحمد جاء فعله على بناء الطبائع والغرائز لتضمنه الحب الذي هو بالطبائع والسجايا أولى وأحق، بخلاف المدح الذي تجرد من ذلك.

4- الحمد لله خبر يتضمن الإنشاء بخلاف المدح.

  وبالتأمل فيما أورده العلماء في دلالة كل من اللفظين ترى أن هناك ملامح أخرى فرقت بين المعنيين جاءت عند أبي هلال العسكري – مثلاً – وهو سابق لابن القيم[5] – في كتابه الفروق اللغوية, إذ يقول: “الحمد لا يكون إلا على إحسان, والله حامد لنفسه على إحسانه إلى خلقه, فالحمد مُضَمَّن بالفعل, والمدح يكون بالفعل والصفة وذلك مثل أن يمدح الرجل بإحسانه إلى نفسه, وإلى غيره وأن يمدحه بحسن وجهه وطول قامته, ويمدحه بصفات التعظيم, من نحو قادر وعليم, وحكيم, ولا يجوز أن يحمده على ذلك, وإنما يحمده على إحسان وقع منه فقط”[6].

ويفهم من كلام أبي هلال أن المدح أعم من الحمد, وأن الحمد لا يكون إلا عن إحسان وقع من الشخص فقط, وذهب الراغب صراحة إلى أن الحمد أخص من المدح وذلك أن المدح يُقال فيما يكون من الإنسان باختياره ومما يُقال منه وفيه بالتسخير, فقد يمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه, كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعمله, والحمد يكون في الثاني دون الأول، وكل حمد مدح وليس كل مدح حمداً[7].

وينقل الكفويّ عن صاحب التبيين أن الحمد يقتصر على الإحسان السابق على الثناء بخلاف المدح الذي يستعمل فيه وفي غيره[8]. فهو على رأيه أعم من الحمد، وهذا ينافي ما فهم من الحمد, فالحمد يكون عن إحسان وعن غير إحسان, وعلى السرّاء والضراء, ولذلك قيل الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه, وقد سيأتي كلام أبي هلال في التفريق بين الحمد والشكر أن “الحمد يصح على النعمة وغير النعمة”[9] بخلاف الشكر, وهذا أيضا قول ثعلب[10].

أما أبو البقاء فقد عرض رأي القائلين بالترادف بين اللفظين والقائلين بالاتفاق بينهما في المعنى العام من جهة الاشتقاق الأكبر, ثم حدد عدداً من الملامح الدلالية الفارقة بين اللفظين, فقال: “الحمد هو الثناء مع الرضى بشهادة موارد استعماله, والمدح مطلقاً هو الثناء, ويشترط في الحمد صدوره عن علم, لا عن ظن, وكون الصفات المحمودة صفات الكمال, والمدح قد يكون عن ظن, وبصفة مستحسنة, وإن كان فيه نقص ما. والحمد مأمور به: “قل الحمد لله” والمدح منهي عنه: “احثوا التراب على المداحين”. والحمد وضع بعد النعمة, وفيه دلالة على أنه فاعل باختياره, وقائله مقرٌّ به, والمدح ليس  كذالك. وفي الحمد اعتراف بدوام النعمة واقتضاء سابقة الإحسان, بخلاف المدح فإنه عام. وتعلق الحمد في قولك (حمدته) بمفعوله منبئ عن معنى الإنهاء, فصار كبعض الأفعال في استدعاء أدنى الملابسة كـ (أعنته إليه) و (استعانته منه) وليس كذالك المدح, لأن تعلقه بمفعوله في قولك (حمدته) على منهاج عامة الأفعال بمفعولاتها في الملابسة التامة المؤثرة فيه, ومن ثَمَّة صار التعلق فيه بالمفعول الحقيقي, وفي الحمد بواسطة الجار المناسب, وما هذا إلا لاختلافهما في المعنى قطعاً. ولا بد في الحمد أن يكون المحمود مختاراً, وفي المدح غير لازم، ولهذا يكون وصف اللؤلؤة بصفائها مدحاً لا حمداً”[11].

   ويرى بعض العلماء أن اللفظين بمعنى, وأنهما من قبيل الترادف, يقول الزمخشري: “الحمد والمدح أخوان, وهو الثناء و النداء على الجميل من نعمة وغيرها”[12].

ويرى فريق آخر أن الحمد مقلوب من المدح, ونسب هذا الرأي لثعلب, ورده السمين، لأن المقلوب أقل استعمالاً من المقلوب منه, وهذان مستويان في الاستعمال. والحمد يستعمل في مواضع لا يستعمل فيها المدح, فيقال مثلاً حمدت الله, ولا يقال مدحته, ولو كان مقلوباً لما امتنع[13].

وهكذا ترى تباين آراء العلماء في دلالة اللفظين، فمنهم من يرى أنهما بمعنى, ومنهم من يرى أن أحدهما (وهو المدح) أصل لصاحبه, (وهو الحمد)، في حين يرى جمهور اللغويين أن لكل منهما معنى ليس لصاحبه, على أنهم قد اختلفوا أيضاً في أيهما أعم من صاحبه, هل الحمد أعم من المدح؟ أو المدح أعم من الحمد؟ كما اختلفوا في تحديد الملامح الدلالية لكل منهما.

فأبو هلال يرى أن الحمد مضمن بالفعل ولا يكون إلا عن إحسان, أما المدح فيكون بالفعل والصفة. ويضيف الراغب ملمحاً آخر, وهو أن المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره أو بالتسخير, أما الحمد فلا يكون إلا في الثاني.

أما أبو البقاء فحدد عدة ملامح أهمها:

1- الحمد يكون عن علم, وفي صفات الكمال, والمدح، قد يكون عن ظن, وبصفة مستحسنة وإن كان فيه نقص.

2- الحمد مأمور به والمدح منهي عنه.

3- الحمد موضوع قبل النعمة وصاحبه مقربه, والمدح ليس كذلك.

4- وفي الحمد اعتراف بدوام النعمة, واقتضاء سابقة الإحسان بخلاف المدح فإنه عام.

5- تعلق المفعول بفعله في الحمد يأتي بواسطة الجار المناسب, أما في المدح فصار التعلق بالمفعول الحقيقي. وهذه الملامح التي سبقت عند ابن القيم والتي أتَت عند من سبقوه أو أتوا بعده, نراها نوعاً من الاجتهادات التي توصل إليها بعضهم, والملاحظات التي أدركوها من تتبع الكلمة في سياقاتها المختلفة، لكنها بكل تأكيد ليست قاطعة لا تقبل الجدل أو المناقشة.

===========================

[1] بدائع الفوائد 2/93 والضوء المنير على التفسير لابن القيم جمع على الحمد الصالحي 1/32

[2] البدائع 2/94 والضوء المنير 1/32

[3] بدائع الفوائد 2/94 والضوء المنير 1/32

[4] السابقان والصفحات ذاتها

[5] توفي سنة 395 هـ

[6] الفرق اللغوية ص 41

[7] المفردات ص 138, والدر المصون للسمين الحلبي 1/37 وانظر الكليات ص 857

[8] الكليات ص 875

[9] الفرق اللغوية ص 45

[10] اللسان “حمد”

[11] الكليات لأبي البقاء الكفوي ص 366

[12] الكشاف للزمخشري 1/15

[13] الدر المصون 1/37

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu