حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

اختلاف القراءات القرآنية وأثره في اتساع الدلالة (1) مدخل تنظيري.. بقلم م.م/ سامح أحمد عبد الحميد

مدرس أصول اللغة المساعد بكلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر

– نزل القرآن الكريم على رسول الله (ﷺ) كما وصفه الله – تعالى – بلسان عربي مبين، ولكن هذا اللسان العربي كان ككل لغات الدنيا يوجد منه مستويان استعماليان، مستوى الفصحى المشتركة بين كل العرب والتي يتحدث بها العرب في أمورهم الرسمية وينشدون به جُل أشعارهم التي جاءت إلينا، وعلى رأسها المعلقات العشرة التي تمثل قمة الشعر الجاهلي من حيث الشهرة وإن لم تكن تمثل قمته من حيث القيمة الفنية.

والمستوى الثاني هو المستوى اللهجي والذي هو حرى أن يسمى بالمستوى القبَلي؛ لأنه يمثل نمطا استعماليا خاصا بكل قبيلة، ولكل منها سمات لهجية يستعملها أبناء هذه القبيلة في محاوراتهم الداخلية، فإذا ما خرجوا للمواقف العامة مع القبائل الأخرى لجأ الجميع إلى اللغة العامة، التي ذكر ابن فارس أنك «لا تجد في كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفية قيس ولا كشكشة أسد ولا كسكسة ربيعة ولا الكسر الذي تسمعه من قيس وأسد مثل : تِعلمون وتِعلم، ومثل: شِعير وبِعير»([1])، إذن نزل القرآن وحالة العرب في لغتهم كحالتهم في تشرزمهم وتفرقهم .

وانطلاقا من هذا الواقع قرر علماء اللغة والقراءات أن السبب في اختلاف القراءات القرآنية هو الرغبة في التيسير على كل عربي أن ينطق بما اعتاده من لهجة قومه؛ وذلك لصعوبة أن يغير العربي لسانه، ولعل هذه الصعوبة لم تكن صعوبة اللسان، بل في صعوبة خُلق العربي الذي يأبى أن يترك ما عليه قبيلته أو ما تربى عليه طول حياته وهم الذين كان شعارهم .” إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ([2])، والقصص التي تحكي أنفة العربي عن أن يحول لسانه كثيرة ليس هذا مكانها، ولكن الذي يعنينا هو تعليل العلماء لاختلاف القراءات القرآنية، بالتيسير على العربي وصار الرأي القائل «وكانت لغة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم مختلفة ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها، بل من حرف إلى آخر ولو بالتعليم والعلاج، لا سيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتابا»([3]) .

    ويعضد هذا الرأي أن كل أحاديث الأحرف السبعة كانت بعد الهجرة، أي :  بعد خروج الإسلام من حيز المحلية في مكة، إلى حيز أكبر يتمثل في المدينة وما توسع فيها من مناطق بعد ذلك «فاليقين الذي نخرج به هنا هو أن النزول بالأحرف السبعة كان تخفيفا وتيسيرا وتوسعة من الله علينا أمة محمد (ﷺ)» ([4]) .

ولكن هذا الرأي ينطبق تمام الانطباق على وجه واحد من أوجه اختلاف القراءات القرآنية، وهو الاختلاف في الملامح الأدائية للألفاظ القرآنية، كالفتح والإمالة، والهمز، والإبدال، والتسهيل، وغيرها من الملامح الأدائية التي اختلفت فيها القراءات القرآنية .

ولكن القراءات لا تختلف في الملامح الأدائية فقط، فهناك الوجه الأهم والأكثر غنى وثراء وهو وجه اختلاف فرش كلمات القرآن، والذي هو مصدر من مصادر ثراء المعنى القرآني  ووجه من وجوه إعجازه .

وقبل أن ننطلق إلى القضية نذكر هذه القصة؛ لننطلق منها إلى معالجة القضية علاجا يعيدها إلى محل الصدارة بعد أن توارت خلف الاعتناء بكيفية الأداء.

كان الحافظ العراقي (ت:806هـ) منشغلا في بداية طلب العلم بالقراءات، حتى نهاه عن ذلك قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، فقال له : إنه علم كثير التعب قليل الجدوى، وأنت متوقد الذهن فينبغي صرف الهمة إلى غيره، وأشار عليه بالاشتغال بعلم الحديث([5]) .

والمتأمل في هذه القصة يرى تزهيد القاضي ابن جماعة لتلميذه وللناس من بعده في الاشتغال بهذا العلم مع أن علماء الأمة مطبقون على أن شرف العلم من شرف موضوعه، وموضوع هذا العلم هو القرآن الكريم

فكيف يستقيم هذا وذاك ؟!.

والذي يظهر أن المشكلة لم تكن في العلم، وإنما في الطريقة التي تحول إليها العلم، وهي مجرد اختلافات نطقية أُهْمِل ورائها المعاني التي تؤدى إليها هذه الاختلافات، والتي تمثل ثراء عجيبا للنص القرآني ، فالقرآن كتاب أريد له أن يحمل قدرًا كبيرا من المعاني مع قدر قليل من الألفاظ ليناسب أمرين أساسيين هما :

– أولا : التيسير للحفظ والتلاوة تحقيقا لوعد الله -تعالى-“وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ” ([6]) .

– ثانيا : السير على سنن العرب الذين نزل القرآن بلسانهم وكانوا يعدون “البلاغة الإيجاز” .

وتحقيقا لهذه الأهداف : سلك القرآن عدة مسالك،  منها : توارد القراءات ذات المعاني المتعددة في الآية الواحدة، فإن القراءتين كالآيتين كما يقول القرطبي([7]) .

ومن المعلوم أن الوحي نزل بهذه الوجوه كلها لتكثير المعنى وتوسيعه، وهذا من بلاغة القراءات التي هي من بلاغة القرآن وبيانه([8]) .

إن القرآن الكريم أسس على ركيزتين بيانيتين لم يؤسس عليهما كلام آخر، وهاتان الركيزتان هما:

1) التعبير الفني المقصود .

2) تزاحم المعاني .

وكلاهما كان لاختلاف القراءات القرآنية دور فاعل في إنمائه والإسهام بنصيب وافر فيه

وهذا الاعتقاد يسلمنا إلى أن في تغاير القراءات فوائد أخرى غير رخصة التخفيف والتيسير على الأمة في جانب الأداء الصوتي([9])

يتبع

[1] الصاحبي في فقه اللغة ص29).

[2]الزخرف (23 ).

[3] شرح طيبة النشر للنويري (1148).

[4] القضية القرآنية الكبرى – د/ محمد حسن جبل ص85 .

[5] لحظ الألحاظ – أبو الفضل الهاشمي – 144 و 145).

[6] وردت أربع مرات في سورة القمر الآيات : 17 و 22 و 32 و40 .).

[7]تفسير القرطبي (3/89)).

[8]القراءات المفسرة وتعدد المعاني – ص 10).

[9] التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية ص21 .).

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu