تعميم الدلالة وتخصيصها
أولا- تعميم الدلالة
أَبــَدًا
المعنى الفصيح:
“الأَبَدُ” ظرف يستغرق ما يُستقبل من الزمان، وليس له حدود([1])، فيطلق على جميع الآتي منه([2]). بخلاف “قَطُّ”، فإنها لاستغراق الزمن الماضي.([3])
تقول: لا أكلمه أبدًا، “قَالَ الرُّمَّانِيُّ: فَإِذَا قُلْت: لَا أُكَلِّمُهُ أَبَدًا، فَالْأَبَدُ: مِنْ لَدُنْ تَكَلَّمْتَ إلَى آخِرِ عُمْرِك.”([4])
ومن “الأَبَد” قول الله -تعالى-: }خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا {([5]) وهو على حقيقته، أما قولك: أفعلُه أبدًا، فهو مجاز، والمراد: المبالغة في إيصال هذا الفعل.([6])
وقد أُخذت هذه الدلالة من التأبيد، أي: التخليد. وأَبَدَ بالمكان يَأْبدُ بالكسر أُبُودًا، أي: أقام به.([7])
ويقال: لَا آتِيهِ أَبَدَ الأَبَدِيَّةِ، وأَبَدَ الآبِدِينَ، بالمدّ، وأَبَدَ الأَبَدِينَ، وأَبَدَ الأَبَدِ، محرّكةً، وأَبَدَ الأَبِيدِ، وأَبَدَ الآبادِ، وأَبَدَ الدَّهْرِ، وأَبِيدَ الأَبِيدِ، بِمَعْنى. أي: هذه التَّراكيبُ كلُّهَا بمعنَى تأَكيد دَوامِ الأَمرِ الَّذِي أَتَى بِهِ. ومن الْمجَاز: جاءَ فُلانٌ بآبِدةٍ، أَي: داهِيَة يَبقَى ذِكْرُهَا على الأَبَد، وَجَمعهَا الأَوابِد، وَهِي الدَّوَاهِي.([8]) “وَيُقَال للطير المقيمة بأرضٍ شتاءَها وصَيْفَها: أَوَابِد”([9])
فمادته –إذ ذاك- تدل على لَبْثٍ، وطول مكث.
المعنى العامي:
إذا تقصيت ألسنة العامة -بشأن هذه الكلمة- ألفيتهم يستعملونها لاستغراق الزمن الماضي أو الآتي، أما الثاني فقد وافقوا فيه الفصيح، وأما الأول فهو من اللحن الظاهر، ولم يُرْوَ عن العرب.
فالعامي يقول: ما كلمته أبدًا، ويعني: فيما سلف من الزمن إلى وقت أن قالها. وإذا استخبرتَه عن أحد لم يعرفه قبلُ، قال: ما شفته([10]) أبدًا. أي: لم أره فيما مضى من عمري.
استنتاج وتعليق:
أسلفتُ أن “أبدًا” في فصيح معناها تقع على الزمن الآتي، ورصد البحث إطلاقها -عند العوام- على ما انصرم منه، أو على ما هو آت من الدهر؛ وعليه فإن استعمالها في المدبِر من الزمان والمقبِل يعد من التضاد.
وإذا تأملتها مليًّا تبين لك أن هذا الظرف تطورت دلالته من الخاص إلى العام، أي: أصابه تعميم خاص؛ ذلك لأنها عند العرب تأتي للزمن الآتي فقط([11])، أما لدى العامة فقد اتسعت دلالتها، فأصبحت للزمانين الخالي البعيد والمقبل المديد.
وقد أوردت بعض الكتب التي رصدت أغلاط العوام نظيرًا لهذا التضاد، حيث كانت العامة -وقتئذ- تخص “قَطُّ” لما يستقبل من الزمن، فيقولون: لا أفعل هذا قَطُّ.([12]) وهي -في الفصيح- ممحضة للزمن الغابر.([13])
ثانيا- تخصيص الدلالة
بَسِيط
المعنى الفصيح:
تدل (الْبَاءُ وَالسِّينُ وَالطَّاءُ) على امْتِدَاد الشَّيْءِ، فِي عِرَضٍ أَوْ غَيْرِ عِرَضٍ.([14]) ولذا فسروا البسط بأنه نقيض القبض.([15]) “وَالْبَسْطَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ: السَّعَةُ”([16]) و”بَسَطَ الشيءَ: نَشَرَهُ”([17]) ” وبَسَطَ يَدَهُ: مَدَّها، وبَسَطَ فلاناً: سَرَّه، وبَسَط المكانُ القَوْمَ: وَسِعَهُم”([18]) “وَمَكَانٌ بَسِيطٌ، أَيْ: وَاسِعٌ. وَيَدٌ بِسْطٌ بِوَزْنِ قِسْطٍ، أَيْ: مُطْلَقَةٌ”([19]) “وَيُقَال: فلَان أَبْسَطُ قومِه باعًا بِالْمَعْرُوفِ، إِذا كَانَ أوسعهم رَحْلًا.”([20])
“وتقول: قد فَرَشَ لي فِراشًا لا يَبْسُطُني، وذلك إذا كان ضيقًا. وهذا فراش يَبْسُطُـك، إذا كـان واسعًـا ” ([21]) ” وانْبَسَطَ النهار ُ وغيرُه : امْتدَّ وطال”([22]) “وَقَالَ ابْن شُمَيْل (ت204هـ): البِسَاط والبَسيطة: الأرضُ العريضة”([23])
وتقول العرب: إنه ليَبْسُطُني ما بَسَطَك، أي: يَسُرُّني ما سَرَّك. والبَسِيطُ من العَرُوضِ سُمِّي به؛ لانْبِساطِ أسبابِه، قال أبو إسحاق (ت310هـ): انْبسَطَت فيه الأسبابُ فصار أوّلُه “مُسْتَفْعِلُنْ”، ففيه سَبَبَانِ متّصلان في أوّلِه.([24])
و”فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى- “البَاسِط”: هُوَ الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ ويُوسّعه عَلَيْهِمْ بجُوده وَرَحْمَتِهِ، ويَبْسُط الْأَرْوَاحَ فِي الْأَجْسَادِ عِنْدَ الْحَيَاةِ.”([25]) و”قال الله -تعالى-: } وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ {([26]) يقول: لا تُسْرِفْ، وقوله: } وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ {([27]) أي: انبساطًا وتوسعًا في العلم، وطولًا وتمامًا في الجسم”([28])
المعنى العامي:
من الدارج على ألسنة الناس استعمال كلمة “بسيط” بمعنى الضَّيِّق، والضَّيِّق: نقيض المتسِع الممتد.
من ذلك أنك إذا زاملت أحدًا في مرحلة الدكتوراة، ثم حالت الدنيا بين لقياكما مدة وجيزة، ثم التمستَ خَبَرَهُ، وقد أنجز رسالته في هذه المدة، قيل لك: أنجز رسالته. فترد متعجبًا مشدوهًا: في هذه المدة البسيطة؟ وتعني: الضيقة المحدودة.
استنتاج وتعليق:
ثبت من العرض الآنف أن “البسيط” -عند العرب- الواسعُ، الممتد، البعيد المدى، وأن جميع المشتقات -ومنها “البسيط”- تُرَدُّ إلى هذا المعنى.
أما استعمال “البَسِيط” في معنى “الضَّيِّق” فالعوام والمتخصصون فيه سواء. وهذا من إطلاق اللفظ على ضد معناه الفصيح، الذي تكلم به أقحاح العرب.
ولعل الباعث إلى وقوع هذا التضاد أن الكلمة تطـور معناها على مرحلتين:
الأولى- انتقال “البسيط” -على ألسنة العامة- إلى معنى اليسير السهل، بعد أن كانت تدل على الواسع الرحب، ولهم في هذا الاستعمال مندوحة؛ حيث يمكن التسويغ له بأنه أُخذ من معنى “غير المركب” فـ”البسيط” مصطلح يقابله “المركَّب”، أو أُخذ من معنى المبسوط الممتد؛ لأن بسط الشيء ومدّه يؤدي إلى يسر وسهولة التعامل معه، وقد ذكرته المعاجم الحديثة بهذا المعنى([29]).
الثانية- اشتُهر إطلاق “البسيط” على “اليسير”، وفشا هذا الاستعمال بين الناس وطال العهد به حتى نَسُوا دلالته الأصيلة، ثم تطور معناها من اليسير -الذي يعني عندهم القليل المحصور- إلى الضَّيِّق.
وبهذا يثبت أن استعمال “البسيط” بمعنى “الضيِّق” قد اتخذ من التطور الدلالي مطية إلى معناه الجديد، على طريق تخصيص العام وانحسار المعنى؛ إذ دل أولًا على الواسع الشاسع، ثم أطلق على الضيق.
=================
([1]) ينظر: الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري 1/273، والكناش في فني النحو والصرف لأبي الفداء ابن شاهنشاه بن أيوب 1/291، وشرح (قواعد الإعراب لابن هشام)، لمحمد ابن مصطفى القُوجَوي، شيخ زاده ص84، ومعاني النحو د. فاضل صالح السامرائي 2/214.
([2]) ينظر: اللمحة في شرح الملحة، لابن الصائغ 1/446 .
([3]) ينظر: اللمحة في شرح الملحة، لابن الصائغ 1/446، وجامع الدروس العربية، لمصطفى ابن محمد سليم الغلاييني 2/207 .
([4]) المصباح المنير 1/1 (ء ب د).
([5]) سورة النساء: من الآية 57 .
([6]) الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري 1/273، بتصرف.
([7]) ينظر: الصحاح 2/439 (أ ب د)، وتاج العروس 7/371 – 374 (أ ب د).
([8]) تاج العروس 7/371 : 374 (أ ب د) بتصرف، وينظر: القاموس المحيط 264 (أ ب د).
([9]) تهذيب اللغة 14/146 (أ ب د).
([10]) الكلمة فصيحة، يقال: “شافَ بمعنى تشوَّف: إِذا علا للنظر”. شمس العلوم: 6/3583 (شاف).
([11]) ينظر: شرح (قواعد الإعراب لابن هشام)، لمحمد بن مصطفى القُوجَـوي ، شيـخ زاد ص: 82 .
([12]) ينظر: تقويم اللسان، لابن الجوزي ص 153، وتصحيح التصحيف وتحرير التحريف، لابن أيبك الصفدي 1/425 .
([13]) ينظر: مقاييس اللغة 5/14 (ق ط)، وشرح المفصل لابن يعيش 3/139.
([14]) ينظر: مقاييس اللغة 1/347 (ب س ط). والعباب الزاخر 1/233 (س ط ب).
([15]) ينظر: تهذيب اللغة 12/241 (س ط ب)، والمحكم والمحيط الأعظم 8/141 ، 141 (ب س ط).
([16]) مقاييس اللغة 1/347 (ب س ط)، وينظر: تهذيب اللغة 12/241 (س ط ب)، والصحاح 3/1116 (ب س ط).
([18]) القاموس المحيط، ص659 (ب س ط).
([19]) مختار الصحاح ص34 (ب س ط)، والمصباح المنير ص34 (ب س ط).
([20]) جمهرة اللغة 1/336 (ب س ط).
([21]) إصلاح المنطق، لابن السكيت ص363، وينظر: الصحاح 3/1116 (ب س ط).
([22]) المحكم والمحيط الأعظم 8/ 142 (ب س ط)، واللسان 7/260 (ب س ط).
([23]) تهذيب اللغة 12/243 (س ط ب)، وينظر: الصحاح 3/1116 (ب س ط).
([24]) المحكم والمحيط الأعظم 8/141، 142 (ب س ط) بتصرف.
([25]) النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/127 (بسط)، وتاج العروس 19/ 143 (ب س ط).
([26]) سورة الإسراء: من الآية 29 .
([27]) سورة البقرة: من الآية 247 .
([28]) الغريبين في القرآن والحديث، لأبي عبيد الهروي 1/176 ، 177.
([29]) ينظر: معجم أخطاء الكتاب، لصلاح الدين الزعبلاوي ص51، معجم الصواب اللغوي مختار عمر 1/479 (ب س ط).